كتاب عربي 21

حين يصبح كل خيار ذريعة: في أخلاق النقد تحت الإبادة

ساري عرابي
"الاحتلال، بحكم طبيعته وبفائض قوته، يملك القدرة البنيوية على جعل كل حساب خاطئا، وكل توقيت غير مناسب، وكل فعل ذريعة"- إكس
"الاحتلال، بحكم طبيعته وبفائض قوته، يملك القدرة البنيوية على جعل كل حساب خاطئا، وكل توقيت غير مناسب، وكل فعل ذريعة"- إكس
شارك الخبر
يطفو في النقاش العام خطابٌ نقديٌّ يلحّ، كلما بلغت المأساة الفلسطينية ذروة جديدة، على أن المقاومة لم تُنتقد بما يكفي. غير أن هذا الخطاب لا يكتفي بالمطالبة بالنقد، بل يتخذ شكل اتهامٍ دائم لأنصار المقاومة بأنهم يرفضونه في كل الأحوال. يُقال إنهم يرفضون النقد أثناء الحرب بحجة أن الظرف لا يسمح، ثم يُقال أيضا إنهم يرفضونه بعد الحرب بدعوى أن الأمر انتهى ولا معنى للمراجعة. هكذا يُصوَّر أنصار المقاومة بوصفهم في حالة إنكار مطلق للنقد، لا لأنهم يناقشونه أو يختلفون حول شروطه ومضمونه، بل لأنهم، وفق هذا الاتهام، يرفضونه سلفا، أيّا كان توقيته.

غير أن هذا الاتهام المزدوج يقوم على افتراضٍ مضمر يتجاهل الواقع نفسه؛ افتراض أن الحرب قد انتهت أصلا، بينما الحقيقة أن الحرب لم تتوقف، لا بوصفها مواجهة عسكرية فحسب، بل باعتبارها بنية مستمرة من العنف، والحصار، والتجويع، والإبادة المتدرجة. في هذا السياق، لا يعود السؤال سؤال توقيتٍ مناسب للنقد، بل سؤال وظيفته؛ هل يُطرح النقد بوصفه أداة لفهم شروط الصراع وتعقيداته البنيوية، أم بوصفه آلية اتهام تُستخدم لإثبات أن الطرف المقابل في حالة رفض دائم للمساءلة؟

تحويل النقاش من هذه الحقيقة البنيوية إلى محاسبة الفعل المقاوم بوصفه "سببا" للكارثة هو قلب للعلاقة السببية نفسها، ونقل لمركز الفعل من البنية القاتلة إلى من يعيش تحتها. وحين تكون لدى طرف واحد القدرة على جعل كل الخيارات كارثية، يصبح الحديث عن "الخيار الصحيح" حديثا أخلاقيا مجردا، لا يفسر الواقع بل يبرئ القوة من منطقها

هذا الخطاب لا يصدر عن ذاكرة ضعيفة، بل عن ذاكرة منتقاة، إذ تُمحى عمدا عقود كاملة من تاريخ سياسي وفكري قام، منذ مسار التسوية، على نقد المقاومة ونبذها وتجريمها. لم يكن ذلك نقدا إجرائيا أو استراتيجيا يبحث في أدوات الفعل وحدوده، بل مشروعا متكاملا لنزع الشرعية، حوّل المقاومة من تعبير عن وضع استعماري قسري إلى "مشكلة داخلية" يُفترض التخلص منها. لذلك فإن الادعاء الراهن بغياب النقد لا يعني غياب النقد فعلا، بل غياب نوع محدد منه، أي ذاك الذي لا يكتفي بالمراجعة، بل يُفضي إلى إدانة المقاومة. وما لا ينتهِ إلى هذه الإدانة لا يُعترف به بوصفه نقدا أصلا.

جاء السابع من تشرين الأول/ أكتوبر ليكشف هذا الخلل لا ليؤسسه، فقد وقع في لحظة عربية ودولية انكشفت فيها الاصطفافات دون مواربة؛ خندق إسرائيلي صريح، وخطاب يعلن عداءه للمقاومة، وخطاب ثالث يحمّلها مسؤولية الإبادة. في هذا المناخ، لم يعد النقد فعلا ذهنيا محايدا، بل صار تدخلا في معركة تأويلية حول معنى ما يجري؛ من هو الفاعل، وأين توضع المسؤولية، ومن يُنزَع عنه هذا الوصف باسم العقلانية أو الواقعية.

هنا يتبدّى الخلط الحاسم بين النقد والإدانة، فالنقد، في معناه الصارم، يفترض مساءلة الفعل ضمن شروطه وسياقه وحدوده التاريخية، أما الإدانة فتبحث عن طرف تُعلّق عليه الكارثة. كثير مما طُرح بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر بوصفه نقدا انزلق إلى إدانة مقنّعة، حين أُعيد توصيف الإبادة بوصفها نتيجة "مغامرة غير محسوبة" أو "خطأ في الحسابات". في هذا التحول، لا يجري تفكيك الفعل المقاوم، بل إعادة توزيع الذنب على نحو يخفف العبء عن البنية القاتلة نفسها.

بيد أن النقاش حول "الحسابات الخاطئة" يتجاهل حقيقة بنيوية لا يمكن القفز عنها؛ وهي أن هذا النقاش يجري وكأننا أمام فضاء متكافئ، تُقاس فيه الأفعال بنتائجها على نحو محايد. والحال أن الواقع الاستعماري لا يعمل بهذه الطريقة، فالاحتلال، بحكم طبيعته وبفائض قوته، يملك القدرة البنيوية على جعل كل حساب خاطئا، وكل توقيت غير مناسب، وكل فعل ذريعة؛ ليس لأن الفعل في ذاته خاطئ، بل لأن القوة المهيمنة قادرة على فرض تعريفها الخاص للخطأ ونتائجه، وعلى تحويل أي خيار إلى كارثة حين تقرر ذلك.

بهذا المعنى، لا تكون الإبادة نتيجة سوء تقدير، بل ثمرة قرار سياسي كامن في منطق السيطرة ذاته، قرار لا يحتاج إلى خطأ من الضحية كي يُفعَّل. إن تحويل النقاش من هذه الحقيقة البنيوية إلى محاسبة الفعل المقاوم بوصفه "سببا" للكارثة هو قلب للعلاقة السببية نفسها، ونقل لمركز الفعل من البنية القاتلة إلى من يعيش تحتها. وحين تكون لدى طرف واحد القدرة على جعل كل الخيارات كارثية، يصبح الحديث عن "الخيار الصحيح" حديثا أخلاقيا مجردا، لا يفسر الواقع بل يبرئ القوة من منطقها.

في لحظات الإبادة، لا يعود السؤال تقنيا أو تكتيكيا، بل سؤالا أخلاقيا ومعرفيا في آن؛ وهو هل يفتح النقد أفق الفهم والتحرر، أم يغلقه باسم العقلانية، ويعيد توزيع الذنب بما يخفف وطأة الجريمة عن فاعلها الحقيقي؟

يتفرع عن ذلك القول الشائع "لا معنى للوم الاحتلال لأن إجرامه معلوم"، غير أن هذا القول، إذا أُخذ إلى نهايته، يُنتج وعيا مبتور الاتجاه، يكفّ عن تسمية الجريمة لأنها "بديهية"، ويتفرغ فقط لمساءلة الذات. في هذه الحالة، لا يعود العنف فعلا له فاعل، ولا الإبادة قرارا سياسيا، بل تتحول الضحية إلى موضوع محاسبة دائم. هذا ليس تعميقا للوعي النقدي، بل إعادة إنتاج لأخلاق الهيمنة بلغة داخلية، حيث يُستبطن منطق القوة ويُعاد تدويره أخلاقيا.

ولا يعني هذا إنكار الحاجة إلى بحث عقلاني في سبل نضال أكثر ديمومة، وأكثر مراعاة لحياة الناس وموازين القوى. هذا بحث مشروع وضروري، لكن ثمّة فرقا جوهريا بين نقد استراتيجي يعترف بالقيود البنيوية التي يفرضها الاستعمار، ويسعى إلى التفكير داخلها، وبين خطاب يتجاهل هذه القيود ليصب عمليا في مشروع عزل المقاومة، لا بوصفها خيارا سياسيا فحسب، بل بوصفها عبئا أخلاقيا حتى على شعبها، وكأنها ليست جزءا من مجتمع الضحية ذاته.

في هذا السياق، يصبح اتهام أنصار المقاومة برفض النقد آلية خطابية مغلقة لا توصيفا محايدا. إذ يُصادَر حقهم في الدفاع، والسجال، والاعتراض على مضمون النقد، ويُقدَّم كل نقاش بوصفه دليلا إضافيا على "الإنكار". هنا لا نكون أمام حوار نقدي، بل أمام فرض وصاية معرفية تتخفى بلغة العقل، حيث يُطلب الامتثال لا الفهم.

الأخطر من ذلك هو الخطاب الذي يبدأ بإعلان العداء لـ"إسرائيل"، ثم ينتهي عمليا بكل ما يخدم سرديتها؛ من نزع السياق، وموازنة الجريمة، إلى تحميل الضحية المسؤولية، وتقديم الإبادة بوصفها نتيجة لا قرارا. هذا التناقض ليس عرضيا، بل علامة على اختلال في البوصلة الأخلاقية، حيث تنفصل النوايا المعلنة عن الوظيفة الفعلية للخطاب في لحظة تاريخية حاسمة.

في النهاية، لا خلاف على أن النقد ضرورة، لكن الضرورة لا تمنح كل ما يُقال صفة النقد. في لحظات الإبادة، لا يعود السؤال تقنيا أو تكتيكيا، بل سؤالا أخلاقيا ومعرفيا في آن؛ وهو هل يفتح النقد أفق الفهم والتحرر، أم يغلقه باسم العقلانية، ويعيد توزيع الذنب بما يخفف وطأة الجريمة عن فاعلها الحقيقي؟

x.com/sariorabi
التعليقات (0)