كتاب عربي 21

سوريا المحررة.. قراءة في رسائل الذكرى الأولى الموجهة لفلسطين

نور الدين العلوي
"الرسائل التي التقطها المتابعون كانت متعددة المصادر، بعضها جاء من الجيش الجديد وبعضها من القيادة السياسية"- جيتي
"الرسائل التي التقطها المتابعون كانت متعددة المصادر، بعضها جاء من الجيش الجديد وبعضها من القيادة السياسية"- جيتي
شارك الخبر
بعد عام واحد على سقوط النظام السوري الذي حكم البلاد لعقود طويلة تحت شعارات القومية (الصمود والتصدي) والمقاومة (الممانعة)، خرج السوريون إلى الشوارع لا للاحتفال بانتهاء حقبة الاستبداد فحسب، بل لتثبيت خطاب جديد حول دور الدولة المتولّدة من بين الأنقاض. ما سمعناه من شعارات في يوم الاحتفال من أناشيد وشعارات وما شاهدناه من صور، لم يكن مجرّد تنفيس جماهيري أو لحظة عاطفية في مسار تاريخي متفجّر، بل بدا وكأنه خطاب سياسي موجّه بعناية إلى الخارج، وتحديدا إلى فلسطين والجوار العربي الذي عاش طويلا تحت تأثير سردية النظام السابق: "أنا قلعة المقاومة الوحيدة".

الرسائل التي التقطها المتابعون كانت متعددة المصادر، بعضها جاء من الجيش الجديد وبعضها من القيادة السياسية التي أعادت تحديد مفهوم الإرهاب وسمت الإرهابي باسمه دون تردد، وبعضها رفع في الشارع المتحرك، حيث بدت الجماهير واعية للاتهام القائل بأن سقوط الأسد كان تفكيكا لسردية "الممانعة" وخدمة غير مباشرة لأمن إسرائيل. لقد شعرنا أو قرأنا لأول مرة منذ نصف قرن، تحدّي تأسيس شرعية لا تستند إلى الخوف أو جهاز أمني أو شعارات قومية فضفاضة، بل إلى مشروع سياسي واقعي يمكن قياسه وتحقيقه.

لقد شعرنا أو قرأنا لأول مرة منذ نصف قرن، تحدّي تأسيس شرعية لا تستند إلى الخوف أو جهاز أمني أو شعارات قومية فضفاضة، بل إلى مشروع سياسي واقعي يمكن قياسه وتحقيقه

تفكيك سردية المقاومة القديمة

لم يطلق النظام السابق رصاصة حقيقية واحدة في سبيل تحرير فلسطين، وحكم بانتظار الرد في الوقت والمكان المناسبين، وبذلك عاش لعقود يتغذّى من رمزية الصمود ويغذّى منه حلفاء له عابرون للحدود. كانت فلسطين بالنسبة له ولهم ذخيرة خطابية، لا مشروعا استراتيجيا. وحين سقط النظام، حملت المعارضة المسلحة والسلمية على حدّ سواء شبهة أنها "تخلّت" عن القضية وأن الثمن كان إسقاط دولة كانت ترفع علم المقاومة. لقد علقت تهمة الخيانة القومية فوق رؤوسهم حتى اللحظة.

ظهر لنا الاحتفال الأخير ردا على هذه السردية؛ أراد الشارع أن يقول إن فلسطين لا يملكها نظام، ولا تكسب شرعيتها شرعية للطغيان. لذلك فإن سقوط السلطة لا يعني سقوط الالتزام بالقضية. في اللافتات التي رُفعت والهتافات التي أُطلقت، ظهر وعي جديد مقاومة بلا استبداد، وقضية قومية بلا أجهزة مخابرات، ودعم لفلسطين لا يقوم على منطق مقابل: "إما أنا الطاغية أو تضيع القدس". جمع يبدو لنا حكيما بين مكونات شعارات الديمقراطية والمقاومة.

القيادة الجديدة وإعادة تعريف الأمن القومي

الجُمل السياسية التي خرجت عن السلطة الجديدة في دمشق حملت نبرة مختلفة، فلأول مرة لم يكن الكلام عن "جبهة صمود" بقدر ما كان عن "دولة قادرة". الفرق بين المصطلحين جوهري، الأول أيديولوجي شعاراتي، والثاني براغماتي مبني على حسابات واقعية، عسكرية واقتصادية ودبلوماسية.

في رسائل الذكرى الأولى بدا وكأن القيادة تريد أن تعيد ترتيب معادلة الأمن القومي السوري بحيث يصبح تحرير الأرض الفلسطينية امتدادا طبيعيا لاستعادة السيادة الوطنية، لا مجرد استثمار رمزي في عداء معلَّق. وهذا تطور مهم، لأنه يحرّر الخطاب من الابتزاز التاريخي الذي حكم علاقة الدولة السورية بالقضية الفلسطينية: إمّا أن تدعم النظام أو تُتَّهم بالخيانة. لكن بقيت أمام القيادة معضلة اختيار توقيت المعركة وهو جزء أساسي من المعركة.

فلسطين كامتداد جيوسياسي لا كشعار أخلاقي

إذا أخذنا الرسائل بجدية، فإن سوريا الجديدة لا تطرح فلسطين كبوابة شرعية داخلية فقط، بل كامتداد طبيعي لحدود الصراع في المنطقة. فالمعركة اليوم -من منظور استشرافي- ليست معركة جيوش نظامية بقدر ما هي معركة شبكات، وقدرات تكنولوجية، وتحالفات مرنة، وتحكم بالمجال العام. سوريا الخارجة من الحرب تمتلك رغم الهشاشة- خبرة قتالية متراكمة، وطبقة شعبية خبرت السلاح والسياسة معا. إذا أُعيد تنظيم هذه الطاقة داخل مشروع قومي عقلاني، فقد تتحول سوريا إلى فاعل مباشر في مشهد الصراع مع إسرائيل لا مجرد متفرّج أو وسيط. لكن هذا السيناريو مشروط بعناصر عديدة:

- استقرار داخلي حقيقي لا مجرد وقف طلق نار. (وهو أمر معلق بعد)

- تحوّل اقتصادي يوفّر للدولة قدرة تمويل مشروع طويل المدى.(وهذه معظلة تحتاج الوقت والمثابرة والإيمان بالدور التاريخي لبلاد الشام أو ميراث أمية الفاتحة)

- تحالفات إقليمية متينة لا تقوم على عقيدة المحاور القديمة بل على مصالح دقيقة.(وقد تابعنا التحالفات تعقد وتظهر نتائجها الأولية).

- بيئة فلسطينية مستعدة للتكامل الاستراتيجي لا فقط للخطابة الرمزية خارج سردية التخوين وتوزيع تهم الإرهاب (وهو جوهر خطاب يصدر عن فلول البعث). ودون هذه العناصر، تبقى الرسائل مجرّد أماني جماهيرية.

هل سوريا مستعدة لمعركة تتجاوزها؟

إذا كانت رسائل الاحتفال بمثابة إعلان عن مرحلة جديدة، فإن السؤال ليس عمّا قيل فقط، بل عمّا لم يُقل. لمّح بعض المسؤولين إلى أن "جبهة الجنوب ستعود ملفا مفتوحا"، وهذا التعبير -وإن بدا عاما- يحمل في طياته مفهوما أمنيا؛ التحول من الدفاع إلى المبادرة.

لا يزال الجيش الجديد الذي يعاد تشكيله في طور التعافي، لكن الدعم الشعبي الواسع لفكرة رد الاعتبار للقضية الفلسطينية يمكن أن يصبح الوقود السياسي لأي مشروع مواجهة قادم. والأهم، أن الشارع نفسه الذي ثار على الاستبداد لم يرفض فكرة المقاومة، بل رفض احتكارها من قبل السلطة. وهذا فارق جوهري: مقاومة بلا وصاية (أو هكذا فهمنا رفع الشارع لاسم غزة).

لكن في الضفة الأخرى يقف واقع إقليمي متوتر، وابتلاع متزايد للضفة الغربية، بينما غزة لا تزال تبحث عن كسرة الخبز تحت برد شتاء كافر والنظام الدولي يثابر لإعادة توزيع النفوذ المهتز بحرب الطوفان. لن يكون دخول سوريا على خطّ مواجهة مباشرة ممكنا دون قراءة دقيقة لموازين القوى: هل تُفتح جبهة الجنوب؟ هل يكون التحرك منفردا أم عبر محور أوسع يضم لبنان، فلسطين، وربما قوى عربية وإسلامية سنية ترغب في إعادة صياغة الإقليم؟

الاحتمالات المفتوحة

يمكن تلخيص سيناريوهات المستقبل في ثلاثة مسارات محتملة:
تقف سوريا اليوم على حافة مشروع أكبر منها (الآن وهنا)، مشروع قد يعيد تعريف الشرق بأكمله إن توفر له العقل السياسي والاقتصادي والعسكري القادر على البناء لا الهدم، وعلى الفعل لا الادّعاء

- مسار رمزي/ دبلوماسي متأن؛ تكتفي فيه سوريا بإعادة الاعتبار لفلسطين، وتعمل على تأسيس نفوذ دبلوماسي ودعم سياسي دون انخراط عسكري مباشر.

- مسار تكتيكي/ تحريري محدود بتحريك الحدود الجنوبية، ليس بقصد حرب شاملة، بل لإعادة موازين الردع وتثبيت سوريا كفاعل جديد يقلب الحسابات.

- مسار مواجهة استراتيجية طويلة المدى بإعداد منظومة شاملة لحرب استنزاف، يستند إلى ما راكمته البلاد من خبرات قتال وتكنولوجيا محلية وتحالفات إقليمية.

لم يحسم الاحتفال الأخير أيا من هذه المسارات، لكنه فتح باب التفكير فيها جميعا. وهو تأنٍ مفهوم ومعقول، فدمشق الفقيرة لا تزال تحت الإف 35 بلا غطاء جوي وأنّى لها.

لم تكن الذكرى الأولى لسقوط النظام مناسبة عاطفية فقط، بل بدت لنا اختبارا لوعي شعب قرر أن يكتب هويته السياسية من جديد. الرسائل التي خرجت باتجاه فلسطين تؤكد أن القضية لا تموت بسقوط سلطة، بل تتاح لها إمكانات جديدة حين تتحرر من خطاب الاحتكار والاستبداد.

تقف سوريا اليوم على حافة مشروع أكبر منها (الآن وهنا)، مشروع قد يعيد تعريف الشرق بأكمله إن توفر له العقل السياسي والاقتصادي والعسكري القادر على البناء لا الهدم، وعلى الفعل لا الادّعاء. لم تعد فلسطين فيما فهمناه شعارا يمسك به النظام كي يبقى، بل احتمالا يمكن أن يتحقق حين تتقاطع الإرادة الشعبية مع حسابات القوة والمصلحة. والسؤال المفتوح الآن: هل تستطيع سوريا الجديدة أن تجعل من الذكرى الأولى بداية لمعركة تمتد أبعد من حدودها، أم تبقى الرسائل وعدا جميلا للترضيات الشعبية؟

كتبنا هذا بشعور مبهَض بالعذاب؛ ألسنا نطلب من الشعب السوري ما لا يستطيع ونحن نراه منذ سنة يجمع أشلاء أولاده الذين محقوا بالكيماوي باسم فلسطين؟
التعليقات (0)