كتاب عربي 21

الاستعمار التأسيسي والعقاب المستمر: هندسة الوعي وتحميل الفلسطيني مسؤولية فنائه

ساري عرابي
"سياسات إسرائيل في الضفة الغربية في أصلها سياسات تأسيسية نابعة من منطق استعماري متجذر"- الأناضول
"سياسات إسرائيل في الضفة الغربية في أصلها سياسات تأسيسية نابعة من منطق استعماري متجذر"- الأناضول
هددت إسرائيل في أيار/ مايو الماضي، على لسان وزير الشؤون الاستراتيجية رون ديرمر؛ بأنّها سوف تقابل اعتراف بريطانيا وفرنسا بدولة فلسطين بضمّ أجزاء من الضفّة الغربية. انتهجت إسرائيل دائما هذا المسلك لحصار الفلسطينيين وإعدام خياراتهم السياسية والنضالية؛ ففي مرّات كثيرة سابقة ردّت على ما تسمّيه بـ"الحرب القانونية والسياسية التي تشنّها السلطة الفلسطينية عليها" بتوسيع البناء الاستيطاني القائم، وشرعنة بؤر استيطانية كانت وفق التعريف الإسرائيلي لها غير شرعية، والاقتطاع من أموال المقاصة بما يكافئ مخصصات عوائل الشهداء والأسرى، وتعويض من تقول إنهم ضحايا العمليات الفلسطينية من أموال المقاصة، واحتجاز أموال المقاصة بالكامل في ضرب مكشوف من سياسة الحصار والتجويع للفلسطينيين في الضفة الغربية، وتجميد البناء الفلسطيني في المناطق (ج)، ومدّ الصلاحيات الإدارية الإسرائيلية إلى المناطق (ب) وبما يقلص مساحة هذه المناطق التي يفترض أنّ الصلاحية الإدارية فيها محصورة في السلطة الفلسطينية وفق اتفاقية أوسلو، وهو ما يتيح لإسرائيل هدم مساكن الفلسطينيين ومصالحهم التجارية في هذه المناطق بدعاوى كاذبة لا تنتهي.

إنّ الكثير من هذه القرارات كانت قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. فمثلا ما جرت الإشارة إليه من محاربة توسيع البناء الفلسطيني في مناطق (ب)، باعتبار أن محاربة البناء الفلسطيني في مناطق (ج) قائمة أصلا؛ ناقشته لجنة الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي في 19 تموز/ يوليو 2023 بطلب من بتسلئيل سموتريتش، وناقشت في الوقت نفسه إنهاء صلاحيات السلطة الفلسطينية عن المنطقة المسماة "محمية الاتفاق" أو "صحراء القدس" والتي تمتد لبيت لحم وحدود الأردن، وتشكل 3 في المئة من مساحة الضفة الغربية.
إسرائيل تمدد الاستيطان، وتصادر صلاحيات السلطة الفلسطينية، وتشرعن بؤرا استيطانية جديدة، وتعلن عن مشاريع ضمّ وتهدد بها، وتحاصر الفلسطينيين اقتصاديّا، في مواجهة حركة دبلوماسية وقانونية للسلطة الفلسطينية، وليس في مواجهة نضال شعبي سلمي أو مسلح، وهو الأمر الذي باتت تنتهجه الولايات المتحدة الأمريكية
هذه القرارات أنفذتها إسرائيل بالفعل في 28 حزيران/ يونيو 2024، أي بعد أقل من سنة على مناقشتها في لجنة الخارجية والأمن، وزادت عليها شرعنة خمس بؤر استيطانية، واستثنت فقط مدّ الصلاحيات إلى مناطق (أ)، وهو أمر جرت مناقشته بالفعل في اجتماع لجنة الخارجية والأمن المشار إليه. وزعمت أنّ هذه القرارات تأتي "في أعقاب نشاط السلطة الفلسطينية في المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية في الأمم المتحدة، ومذكرات الاعتقال ضد كبار المسؤولين الإسرائيليين، والضغط الذي تمارسه من أجل الاعتراف الأحادي بالدولة الفلسطينية من قبل مختلف الدول".

سياسات إسرائيل في الضفة الغربية في أصلها سياسات تأسيسية نابعة من منطق استعماري متجذر، أي هي مشروع أنطولوجي يهدف إلى تكريس الوجود بنفي الساكن الأصلي، وليست ردود أفعال ظرفية على الفعل الفلسطيني، فقيامها في الواقع بغرض تكريس الاستيطان وعزل الفلسطينيين وحصارهم جغرافيّا وديموغرافيّا شديد الوضوح، وإلا كيف تمكنت من فرض هذه الوقائع الاستيطانية كلّها، بحيث فصلت القدس عن محيطها الفلسطيني في الضفّة الغربية، وجعلت قدرة التواصل الفلسطيني البينية مستحيلة دون التحكم الإسرائيلي، وشيّدت البنى التحتية الواسعة بما في ذلك طرق المواصلات التي تربط التجمعات الاستيطانية المتسعة باستمرار؟! وهذا علاوة على تشكيل مليشيات المستوطنين، وسياسات البطش الأمني والعسكري التي ينتهجها جيش الاحتلال يوميّا، وهذا سوى خطط الضم وفرض السيادة المعلنة، والتي يجري إنفاذها بالفعل من خلال اختراع حقيبة ثانية في وزارة الحرب الإسرائيلية لسموتريتش، بهدف مساواة قوانين الاستيطان في الضفة الغربية بالقوانين الإسرائيلية داخل الأراضي المحتلة عام 1948. وقد أعلن نتنياهو نفسه عن خططه للضمّ في حكومته السابقة (2015 إلى 2020)، ويمكن أن يشار في السياق نفسه إلى العديد مما يسمى بقوانين السيادة التي ظلت تطرح في الكنيست منذ أواسط تسعينيات القرن الماضي وإلى اليوم.

المراد قوله من هذه الأمثلة على سياسات إسرائيل العدوانية، أمران: الأول أنها سياسات تأسيسية، والثاني أنّها كثيرا ما تُعبّر عن نفسها بوصفها سياسات عقابية بسبب خيارات السلطة الفلسطينية الدبلوماسية والقانونية. تصبح العقوبة هنا منطقا تأسيسيّا للعنف الكولونيالي، بحيث يصبح الفلسطيني مذنبا قبل أن يفعل.

إذن إسرائيل تمدد الاستيطان، وتصادر صلاحيات السلطة الفلسطينية، وتشرعن بؤرا استيطانية جديدة، وتعلن عن مشاريع ضمّ وتهدد بها، وتحاصر الفلسطينيين اقتصاديّا، في مواجهة حركة دبلوماسية وقانونية للسلطة الفلسطينية، وليس في مواجهة نضال شعبي سلمي أو مسلح، وهو الأمر الذي باتت تنتهجه الولايات المتحدة الأمريكية من خلال إدارة ترامب التي ألغت تأشيرات الدخول لممثلي السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير إلى الولايات المتحدة، بهدف منعهم من المشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة المفترض انعقادها في نيويورك في الأسبوع الأخير من أيلول/ سبتمبر الحالي، وقد قالت وزارة الخارجية الأمريكية إنّ إجراءها العقابي هذا جاء بسبب "الطعون المقدمة إلى المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، والجهود الرامية لضمان الاعتراف الأحادي الجانب بدولة فلسطينية افتراضية"، ثم أتبعت أمريكا ذلك بتعليق تأشيرات جميع الفلسطينيين الذين يحملون جواز سفر السلطة الفلسطينية!
السياسات العقابية هي سياسات استعمارية تقليدية مارستها القوى الاستعمارية كلها في التاريخ، وتهدف دائما إلى إقناع الشعب الخاضع للاستعمار بأنّ مقاومته ليست مجدية، بل شديدة الضرر، وإشعاره بالندم وتأنيب الضمير

فالولايات المتحدة تنضمّ إلى إسرائيل في معاقبة السلطة الفلسطينية على ما يمكن تسميته بـ"النضال السياسي والقانوني"، بالرغم من إدانة السلطة الفلسطينية للعمليات المسلحة، وأخذها مسافة من حركة حماس وبقية فصائل المقاومة، وانتهاجها خطّا لم تحد عنه أبدا في نبذ المقاومة المسلحة، وهو الأمر الذي يعني، وفق الإرادة الأمريكية والإسرائيلية، معاقبة الفلسطينيين على أيّ شكل من أشكال النضال، ولو كان في الحدود القانونية والدبلوماسية، وجعل هذا النضال مكلفا جدّا ويصل حدود الهدم الممنهج لمساكن الفلسطينيين حتى لو لم يقترفوا أيّ عمل مقاوم، كما هو واضح من سياسات الهدم في مناطق (ج)، ومد ذلك إلى مناطق (ب)، وفي مرحلة لاحقة إلى مناطق (أ)، وبدعوى "الحرب السياسية والقانونية التي تشنها السلطة الفلسطينية على إسرائيل"!

ما أهمية التأكيد على هذه الحقيقة؟!

بعد العملية الأخيرة التي نفّذها شابان من قرى شمال غرب القدس في مستوطنة راموت، جمعني حواران تلفزيونيان، أحدهما مع معلق فلسطيني وآخر مع أمريكي، كلاهما ركّزا على الاستفادة التي سوف يحصلها بنيامين نتنياهو وتيار الاستيطان التوراتي المتحالف معه من هذه العمليات. بدا هذا التركيز قلبا للحقائق التي تقرّ بها الأوساط المهنية في إسرائيل، بالرغم من كونها أدوات القمع التنفيذي للشعب الفلسطيني كجهاز "الشاباك" والجيش الإسرائيلي، إذ يكثران من التحذير في اجتماعات "الكابينت" السياسي والأمني من انفجار الضفّة الغربية بسبب انفلات مليشيات المستوطنين والإفراط في سياسات الحصار الاقتصادي، بمعنى أنّ هناك وعيا في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية باستجلاب الحالة الاستعمارية لردود أفعال فلسطينية، من شأنها أن تزداد أو تتوفر لها دوافع مضاعفة بسبب سياسات هذه الحالة الاستعمارية، بيد أنّه في التعقيب على هذا النوع من العمليات يجري، بمثل التركيز المشار إليه، تصويرها وكأنها الفعل المؤسس للحالة الاستعمارية الصهيونية وأدواتها.

النقاش هنا ليس في الموقف من هذه العمليات وصوابها من خطئها، أو جدواها من عدمه، أو فائدتها من ضررها، ولكن في قدرة الإسرائيلي على هندسة الوعي، وحرف الرؤية عن الحقائق الماثلة في الواقع، فقد بات الإسرائيلي ينتهج الممارسة نفسها ردّا على مجرد مساعي السلطة لتحصيل اعتراف بدولة فلسطين، التي تقرّ إسرائيل والولايات المتحدة أنّها دولة "افتراضية"، أيّ أنّ الاعتراف بها غير مؤثّر في وقائع السياسة الاستعمارية في فلسطين، فما يقال عن كون تيار الاستيطان التوراتي يجد في هذه العمليات مادة شحن لتوسيع الاستيطان وتكثيف سياسة هدم المباني؛ يتغافل عن كون الأمر نفسه يحصل ردّا على مجرد التوجه إلى الجمعية العامّة للأمم المتحدة أو المحاكم الدولية، وإذا كان وزير الحرب الإسرائيلي يسرائيل كاتس قد أعلن عن قراره بهدم جميع المباني غير المرخصة في القرى التي خرج منها المنفذون (وهي غير مرخصة فقط لأن إسرائيل ترفض ترخيصها بهدف منع التمدد الجغرافي الفلسطيني)، فإنّ سياسات الهدم قائمة بالفعل في مناطق (ج) و(ب) دون التذرع بالعمليات، وأحيانا ردّا على خطوات السلطة الدبلوماسية والقانونية!

الخلل في تصوّر المشكلة حاصل كذلك بخصوص المسألة التفاوضية بشأن حرب الإبادة على غزة، فبالرغم من الوضوح الشديد للسلوك الإسرائيلي/ الأمريكي الذي يتخذ من المفاوضات غطاء لاستمرار الإبادة، وحملة علاقات عامّة لصالح تجميل الجريمة الإسرائيلية، فإنّه يجري تحميل الطرف الفلسطيني المسؤولية عن استمرار الإبادة

السياسات العقابية هي سياسات استعمارية تقليدية مارستها القوى الاستعمارية كلها في التاريخ، وتهدف دائما إلى إقناع الشعب الخاضع للاستعمار بأنّ مقاومته ليست مجدية، بل شديدة الضرر، وإشعاره بالندم وتأنيب الضمير، لأنّ الأثمان الفورية المدفوعة عقب نشاطه المقاوم تفوق أيّ فائدة مرجوّة قد لا تظهر حتى في الفور، بيد أنّ الإشكال الراهن ليس فقط في الغفلة عن هذه الحقيقة التاريخية، ولكن في قبول منطق الذرائع الإسرائيلي، والذي لم يعد يقتصر على أنماط المقاومة الصريحة والمباشرة، ولكنّه يُدفّع الفلسطينيين الثمن نفسه مقابل التوجه للأمم المتحدة.

غياب اليقظة عن هذا الفخ سوف يفضي إلى قدر من "التأسرل" والقبول بكون الفلسطيني مشكلة في ذاته؛ إلى درجة السعي إلى الفناء الذاتي بالمعنى السياسي وربما المادي، لاجتناب البطش الإسرائيلي الذي يرى في الوجود الفلسطيني المجرّد نمطا من المقاومة، وهذا الأمر كما حصل في خطابات عدد من السياسيين والمثقفين العرب الذين يحملون الفلسطينيين مسؤولية استمرار معاناتهم التاريخية؛ بات يدخل بوضوح إلى الوعي الفلسطيني، بحيث ترى الضحية ذاتها إثما، وتعيش دائما تحت شرط ذنب أنطولوجي، وترى نفسها خطأ يجب تصحيحه.

هذا الخلل في تصوّر المشكلة حاصل كذلك بخصوص المسألة التفاوضية بشأن حرب الإبادة على غزة، فبالرغم من الوضوح الشديد للسلوك الإسرائيلي/ الأمريكي الذي يتخذ من المفاوضات غطاء لاستمرار الإبادة، وحملة علاقات عامّة لصالح تجميل الجريمة الإسرائيلية، فإنّه يجري تحميل الطرف الفلسطيني المسؤولية عن استمرار الإبادة، أي تمكنت إسرائيل من إعادة توجيه الوعي للنظر إلى استمرار الإبادة وكأنه ناجم عن فشل المفاوضات، وإزاحة الوعي عن ملاحظة الإبادة بوصفها فعلا تأسيسيا إسرائيليا جعلته منطقا وحيدا للحرب، ومن ثمّ يتجه الخطاب لا لنقد الأداء التفاوضي الفلسطيني في هذه الحالة، ولكن إلى اتهامه باستمرار الإبادة، واتهام أيّ صوت لم يتبن هذا الاتهام، أو لم يكشف ظهر المقاوم الفلسطيني، أو لم ينشغل بإدانة هذا المقاوم، بحيث يمتد هذا التصوّر الدخيل إلى وعينا حتى لا نجد لنا خلاصا إلا القبول بفنائنا الذاتي. وهنا تنتقل القدرة الاستعمارية من السيطرة على الأرض والجسد إلى السيطرة على خيال البقاء نفسه!

x.com/sariorabi
التعليقات (0)

خبر عاجل