في مشهد قد يبدو من نسج
الخيال الساخر، انقلبت الخريطة الأخلاقية للمشهد الدولي رأسا على عقب. فبينما
تتهاوى أطنان القنابل على رؤوس الأطفال في
غزة، يقدم العالم مشهدَين متباينين إلى
حدّ المأساة الكوميدية؛ مشاهد شوارع أوروبا وأمريكا تزأر غضبا وتطالب بوقف المجـزرة،
ومشاهد قصور
عربية تهمس بـ"الحكمة" و"الواقعية" و"عدم
استفزاز المشاعر"! لقد أصبح "
الغربي" هو من يصرخ في الشارع دفاعا
عن قيم الإنسانية، بينما "العربي الرسمي" هو من يجلس في كرسيه الوثير
محذرا من "التطرف" و"زعزعة الاستقرار". هذه هي الصورة دون رتوش ودون مجاملة أو حذلقات إعلامية، فهل يفم
الشارع العربي واجبه أخيرا تجاه نفسه وتجاه غزة؟
في الغرب الشوارع أقوى من القصور
لم تكن المظاهرات التي
عمّت لندن وباريس وبرلين ونيويورك ووصلت إلى ديزني والمكسيك؛ مجرد مسيرات عابرة،
لقد كانت زلازل شعبية أعادت تعريف الديمقراطية من أسفل الهرم. طلاب، ونشطاء،
ونقابات عمال، وكهنة، ويهود مناهضون للصهيونية، خرجوا جميعا ليصرخوا بوجه
حكوماتهم: "كفى!". لقد فضحوا تناقض الشعارات البراقة حول حقوق الإنسان،
ووضعوا أنوف حكوماتهم في وحل مآسيها التاريخية. القوة هنا لم تكن في البيانات
الدبلوماسية، بل في ملايين الأقدام التي داست أرصفة العواصم، وفي أصوات المذيعين
الذين تجرأوا على كسر التابوهات، وفي قرارات بعض الدول وقف التمويل لمنظمة تموّل
المجزرة. إنها إرادة شعبية فرضت نفسها، ولو جزئيا، على آلة السياسة الرسمية.
كانت قلوب عربية كثيرة تتعلق بالأمل في قمة الدوحة، كانت العقول تقول انصرفوا إلى فعل شيء مفيد عوض متابعة المهزلة، لكن القلوب كانت مستعدة للخديعة وانفضت القمة عن فضيحة أخرى
لقد كان خطاب الرياضي
الفرنسي إريك كانتونا في حفل التبرع بلندن ليلة 18 أيلول/ سبتمبر قويا وواضحا،
وعمليا البدء بتجميع رياضي العالم في عملية عزل رياضيي الكيان عن المسابقات
الدولية وخاصة في اللعبة الشعبية الأشهر "كرة القدم". وقد كانت الصورة
واضحة لديه، ازدواج المعايير بين أوكرانيا والكيان. فروسيا عُزلت منذ اليوم الرابع
من غزوها لأوكرانيا، بينما لا تزال الفرق الصهيونية مرحبا بها، كأن رسالة الجمهور
الإيطالي وهو يدير ظهره للنشيد الرسمي للكيان غير كافية. سيكون لكلمة كانتونا أثر
بالغ، وسنراقب فضيحة الهيئات الرياضية الدولية فغزة تفضح الجميع.
في العالم العربي.. القصر يخون الشارع!
في الجانب الآخر من
البحر المتوسط، يُعرض مشهد مختلف، بل ومهين. يصمت الكثير من "الرسميين"
العرب، أو يتبادلون الاتهامات بالـ"استعداء" إذا ما تجرأ أحد وانتقد.
تتحول الدبلوماسية إلى فن التهرب من المسؤولية، وتُختزل القضية المركزية للأمة في
"دعوات سلام" جوفاء، بينما تظل العلاقات التطبيعية قائمة ودافئة، وكأن
شيئا لم يحدث. الشجاعة الوحيدة التي يبدونها هي في توجيه النقد لفصائل المقاومة،
وكأن مقاومة الاحتلال هي الجرم الأكبر، وليس الاحتلال نفسه! لقد تم استبدال منطق
"الأمة الواحدة" بمنطق "الدولة القُطرية" الهش، الذي يقدّس
"استقرار" العروش على حساب كرامة الشعوب ودِماء الأطفال. إنها
"رخاوة" متعمدة، تغلفها خطابات مملوءة بالكليشيهات الدبلوماسية الفارغة،
كأوراق التين التي تحاول عبثا ستر عورةٍ أصبحت مرئية للعالم أجمع.
كانت قلوب عربية كثيرة
تتعلق بالأمل في
قمة الدوحة، كانت العقول تقول انصرفوا إلى فعل شيء مفيد عوض
متابعة المهزلة، لكن القلوب كانت مستعدة للخديعة وانفضت القمة عن فضيحة أخرى. لقد
جاؤوا إلى الدوحة لمجاملة أميرها فله عليهم أياد وأفضال، لم يحضروا ليغيّروا
مصيرهم ومصير شعوبهم. كم من عاصمة ستقصف ليفهم النظام الرسمي العربي أنهم بنك
أهداف للكيان؟
المفارقة المؤلمة
وصلت المفارقة الساخرة
ذروتها وتعجزنا اللغة على إعطائها شكلا مكتوبا. المتظاهر في لندن أو في برلين أو أمستردام،
الذي قد لا يعرف عن الإسلام سوى صورة نمطية، ولم يعرف بلاد العرب إلا في النُزل
السياحية أو أفلام هوليود الموجهة للعوام؛ يتحول إلى مدافع عن إنسانية المسلمين في
غزة وأكثر من حاكم عربي يجتمع مع قاتلهم على وليمة عشاء.
من كان يتخيل ريتشادر
جير، معبود نساء هوليود ونساء العالم، أن يقف في حفل تبرع ليجمع القلوب والعقول
حول غزة، والنائبة في الكونغرس التي تواجه تهمة "معاداة السامية" لأنها
نطقت باسم "غزة" تُظهر شجاعة أخلاقية تفوق بشاعة صمت مئات السفراء
والوزراء العرب. لقد كشف هذا الموقف تناقضا وجوديا، فبينما تتحرك شعوب
"الغرب" بدافع أخلاقي نابع من ضميرها المدني، تتحرك الأنظمة العربية
بدافع "الخوف" و"المصلحة الضيقة"، فتفقد بذلك شرعيتها
الأخلاقية أمام شعوبها أولا، وأمام التاريخ ثانيا.
هل سيأتي نصر من الغرب؟
في النهاية، التاريخ لا
يرحم، لن يُذكر أن شعبا أوروبيا خرج ليندد بمجـزرة، فحسب، بل سيُذكر أن النظام
الرسمي العربي، بمقولاته الهشة عن السلام والاستقرار وصمته المخزي عن المجزرة، كان
شاهدا، بل وشريكا صامتا في على أكبر مأساة إنسانية في القرن الحادي والعشرين. لقد
فضح الموقف الشعبي الغربي زيف الأنظمة العربية، وبيّن أن القوة الحقيقية لم تعد في
قصور الحكام، بل في إرادة المحكومين. والسؤال الذي يظل معلقا: إلى متى ستبقى
شعوبنا العربية تدفع ثمن "رخاوة" حكامها، بينما يثبت "الغرب"
أن ضمير الإنسان، في أي مكان، يمكن أن يكون أقوى من كل حسابات السياسة الباردة؟
رغم ما نتابعه كل يوم
وفي كل مدينة غربية من تظاهر بلغ حد تعطيل دورة رياضية عالمية يشارك فيها الكيان
في مدريد، ورغم أسطول التضامن الدولي الذي غطى البحر المتوسط بالراية
الفلسطينية،
فإننا نحتفظ ببعض عقولنا لنقول إن ما نراه رافد مهم لنصرة غزة في محنتها وربما
يتطور إلى نصرة الحق الفلسطيني التاريخي في أرضه، لكنه لن يحل محل الشارع العربي.
حقيقة أخرى ماثلة أمامنا لن يقدر عليها الشارع الغربي، هذه الحقيقة يعيشها المواطن العربي، حتى وهو يوهم نفسه بأمل يأتي من قمة الدوحة. لقد اتضحت الصورة بحرب الطوفان. إن السبب الأول في بقاء الكيان وفي غطرسته على شعوب المنطقة هو الحماية التي يلقاها من النظام الرسمي العربي
حقيقة أخرى ماثلة
أمامنا لن يقدر عليها الشارع الغربي، هذه الحقيقة يعيشها المواطن العربي، حتى وهو
يوهم نفسه بأمل يأتي من قمة الدوحة. لقد اتضحت الصورة بحرب الطوفان. إن السبب
الأول في بقاء الكيان وفي غطرسته على شعوب المنطقة هو الحماية التي يلقاها من
النظام الرسمي العربي. هذا الدعم أقوى حتى من الدعم الأمريكي بالسلاح وبالموقف
السياسي، لأنه الدعم الذي يحول بين الشارع العربي وبين حريته.
هناك حقيقة تتعرى كل
يوم؛ تلازمٌ وجودي تام بين الكيان وبين النظام الرسمي العربي، إنهما يتساندان
لمعرفتهما اليقينية أنه إذا سقط واحد منها سقط الثاني بالتبعية. شرط وجود كل واحد
منهما هو بقاء الثاني مستقرا أو على الأقل بقلاقل تحت السيطرة (تنفيسات محسوبة،
وحتى هذه لم يعد النظام العربي يسمح بها كما كان الأمر منذ سنوات قليلة).
قد يبرد الشارع الغربي إذا
بردت الأخبار عن غزة فله مشاغله الخاصة وصحوة الضمير قد تغير وجهتها، لكن قضايا
الشارع العربي مختلفة ومن هنا يتحدد دوره وأهميته. إنه شارع محاصر ومخنوق ومحتاج
إلى طوفان بشري يحرر به نفسه قبل أن يحرر غزة أو فلسطين رغم أن قلبه معلق بفلسطين
أكثر من موطنه، حيث يعاني الحصار والقهر.
إن الشارع الغربي
المتحرك من أستراليا إلى المكسيك شارع حر اكتسب حريته بدمائه ومعاناته، لقد دفع
الأثمان ليتحرك حيث يوجهه ضميره وهو في كامل وعيه لكي لا يحل محل شارع آخر يرفض
القيام من أجل حريته. هذا هو الدرس الأعظم من تلك الشوارع المثيرة للانبهار.
ونختم
بأسى، مثلما لن تمل الأنظمة من عقد القمم الجوفاء لتمويه مواقفها وتمييع الغضب
الشعبي؛ لن نمل من تكرار اللازمة على الشوارع العربية: لا تحرير إلا بالديمقراطية،
فمن سعى فيها محليا سيصل غزة وما بعد غزة.