استوقفتني
تصريحات الدكتور محمد الصغير حول
الثورة السورية وتجارب الربيع العربي، والتي رأى
فيها أن الحراك المسلح كان السبيل إلى الانتصار، وأن الثورات التي بقيت
سلمية قد
هُزمت. ومع تقديري لشخص الدكتور الصغير وخبرته الدعوية والسياسية، أرى أن هذه
القراءة تغفل عن حقائق بالغة الأهمية أثبتتها التجارب الحديثة، وتغالي في تعميم
نموذج العسكرة على سياقات متباينة.
السلاح
استثناء محفوف بالمخاطر
من حق
الشعوب أن تدافع عن نفسها في وجه الطغيان، وقد يفرض حمل السلاح نفسه في ظروف قصوى
لا تترك مجالا لأي فعل سلمي، لكن تحويله إلى قاعدة للتغيير هو وصفة محفوفة
بالمخاطر.
من حق الشعوب أن تدافع عن نفسها في وجه الطغيان، وقد يفرض حمل السلاح نفسه في ظروف قصوى لا تترك مجالا لأي فعل سلمي، لكن تحويله إلى قاعدة للتغيير هو وصفة محفوفة بالمخاطر
لقد
أظهرت تجارب قاسية -من الجزائر في التسعينيات إلى سوريا بعد 2011 - أن العسكرة قد
تُسقط أنظمة، لكنها غالبا ما تجرّ المجتمعات إلى دوامات دموية طويلة، وتمنح
الاستبداد ذريعة ذهبية لتعزيز قبضته، وتحويل الصراع من سياسي إلى أمني/ عسكري.
السلمية..
قوة استراتيجية وليست ضعفا
في
مصر، كانت ثورة يناير المثال الأوضح على أن السلمية الواعية قادرة على تحريك
ملايين البشر، وشلّ أعتى أجهزة القمع دون طلقة واحدة.
السلمية
هنا ليست رومانسية سياسية، بل فلسفة نضال تقوم على استنزاف النظام، وتجريده من
شرعيته، وتوسيع قاعدة المشاركة الشعبية، وحرمانه من خطاب "محاربة الإرهاب"،
إنها أداة لإحداث تراكم في الوعي وتنظيم القوة المجتمعية على المدى الطويل، بما
يضمن أن
التغيير لا يطيح برأس النظام فقط، بل يهدم بنيته الاستبدادية من الجذور.
خطأ
التعميم وإغفال خصوصية السياقات
ليس
كل ما يُنجز في بيئة ما يمكن نسخه إلى بيئة أخرى. تختلف تركيبة المجتمعات، وبنية
الدولة، وموازين القوى، وشبكات التحالفات الداخلية والخارجية، وهذه كلها عوامل
تحدد جدوى أي خيار، مسلحا كان أم سلميا.
كما
أن إخفاق بعض الحراكات السلمية لم يكن سببه السلمية بحد ذاتها، بل الانقسامات
الداخلية، وأخطاء القيادة، والتحالفات الإقليمية المضادة، فضلا عن شراسة النظم
الحاكمة.
التجربة
المصرية.. السلمية كسلاح وعي
بعد
2013، أثبتت التجربة المصرية أن السلمية ليست غيابا للفعل، بل هي شكل من أشكال
المقاومة الذكية، يقوم على بناء شبكات مجتمعية، وتحريك قوى المجتمع في إطار ضاغط
متدرج، مع استثمار كل نافذة سياسية أو إعلامية لفضح الاستبداد، والحفاظ على تماسك
النسيج الوطني، بدل تمزيقه في مواجهات مسلحة لا تخدم إلا السلطة.
مقارنات
ودروس من مسارين مختلفين
1-
حالات لجأت للسلاح
• الجزائر
(1991 - 2000):
السلمية ليست غيابا للفعل، بل هي شكل من أشكال المقاومة الذكية، يقوم على بناء شبكات مجتمعية، وتحريك قوى المجتمع في إطار ضاغط متدرج، مع استثمار كل نافذة سياسية أو إعلامية لفضح الاستبداد، والحفاظ على تماسك النسيج الوطني، بدل تمزيقه في مواجهات مسلحة لا تخدم إلا السلطة
بعد
إلغاء الانتخابات وفوز الإسلاميين، انزلقت البلاد إلى حرب أهلية أودت بحياة نحو
200 ألف إنسان، وانتهت بعودة النظام أكثر صلابة، وتراجع الحاضنة الشعبية لأي مشروع
معارض.
• سوريا
(بعد 2011):
بدأ
الحراك سلميا واسعا، لكن العسكرة سرعان ما فتحت الباب لتدخلات إقليمية ودولية،
وحولت البلاد إلى ساحة حرب معقدة، مع تدمير واسع وتشريد الملايين، وبقاء النظام في
السلطة.
• تجربة
أحمد الشرع (كانون الأول/ ديسمبر 2024):
الإطاحة
ببشار الأسد لم تكن نتاج العمل المسلح وحده، بل ثمرة توازنات وحسابات دولية
وإقليمية دقيقة: تغير مواقف قوى كبرى، وتراجع نفوذ الحلفاء التقليديين، وحالة
إنهاك داخلي، وبروز شخصية أحمد الشرع كخيار وسط يحظى بقبول نسبي.
ما
جرى كان مزيجا بين ضغط عسكري قائم وترتيبات سياسية قدّمت على أنها "انتقال
منظم"، وهو ما يجعل التجربة حتى الآن تحت الاختبار ومحفوفة بالمخاطر، إذ يمكن
أن تنقلب التحالفات أو تتجدد الصراعات إذا اختلت التوازنات.
2-
حالات تمسكت بالسلمية
• الهند
(غاندي):
عبر
العصيان المدني والمقاومة السلمية، أجبرت بريطانيا على التفاوض ومنحت الاستقلال
عام 1947، مع الحفاظ على وحدة الكتلة الوطنية.
• جنوب
أفريقيا (مانديلا):
بعد
عقود من الكفاح المسلح، انتقل مانديلا إلى نهج السلمية والمصالحة، ما أنهى نظام
الفصل العنصري دون حرب أهلية.
• ثورة
25 يناير (مصر):
خلال
18 يوما من الانضباط السلمي، سقط رأس النظام، وانهار جدار الخوف، قبل أن تنجح
الثورة المضادة في استغلال الانقسامات لإجهاض المسار.
الدروس
المستفادة
1- السلاح
قد يُسقط حاكما لكنه نادرا ما يبني دولة مستقرة.
2- السلمية
تمنح الشرعية الشعبية والأخلاقية وتحرم الاستبداد من مبررات القمع.
3- كل
سياق له خصوصيته، ولا تصلح وصفة واحدة للجميع.
4- استراتيجية
النفس الطويل أكثر فاعلية من المواجهة الدموية الخاطفة.
الخلاصة
السلاح
قد يفرض نفسه في لحظات استثنائية، لكنه استثناء لا ينبغي أن يتحول إلى قاعدة.
الأصل -ما دام ممكنا- هو السلمية كخيار استراتيجي وأخلاقي، وتطوير أدواتها حتى
تستطيع فرض إرادة الشعوب بلا عنف.
التغيير
الذي يبدأ من فوهة البندقية قد يطيح برأس النظام، لكنه غالبا يترك جراحا عميقة
تمنع بناء الدولة العادلة. أما التغيير الذي تصنعه إرادة الجماهير المنظمة، فيحافظ
على وحدة المجتمع، ويصون الوطن من الانهيار بعد سقوط الاستبداد.