تشير
وثيقة الأمن القومي الأمريكية الجديدة إلى أكثر من مجرد إعادة ترتيب للأولويات؛
إنها تعكس تحوّلا نوعيا في إدراك الولايات المتحدة لطبيعة
النظام الدولي ولحدود
قدرتها على التحكم به. الوثيقة، في جوهرها، ليست تعبيرا عن ثقة قوة مهيمنة، بل عن
قلق استراتيجي عميق من عالم يتجه نحو التعدد، في وقت لا تزال فيه واشنطن تفكّر
بمنطق الأحادية. هذا التناقض البنيوي هو المفتاح الحقيقي لفهم ما تحمله الوثيقة من
دلالات خطيرة على مستقبل الأمن العالمي والعلاقات الدولية.
منذ
نهاية الحرب العالمية الثانية، بُني النظام الدولي على معادلة واضحة؛ هي قيادة
أمريكية مقابل شبكة تحالفات قائمة على المصالح المشتركة والتقاسم النسبي للأعباء،
غير أن الوثيقة الحالية تعلن، بشكل غير مباشر، نهاية هذه الصيغة. فالتحالفات لم
تعد تُعامل كركائز استقرار، بل كمساحات يجب ضبطها وإدارتها؛ الشراكة تتحوّل إلى
تبعية، والتوافق إلى امتثال. هذه النقلة ليست تقنية، بل فلسفية، لأنها تعيد تعريف
معنى الحليف في العقل الاستراتيجي الأمريكي.
الإشكالية الأعمق في الوثيقة تكمن في بنيتها الفكرية، فهي تعترف ضمنيا بتآكل القدرة الأمريكية على الضبط، لكنها تردّ على ذلك بمزيد من المركزية والتشدد. هذا التناقض يجعلها وثيقة لإدارة التراجع لا لتجاوزه، فالعالم يتجه نحو تعددية معقّدة تتطلب أدوات تفاوضية وشراكات مرنة، بينما تُصرّ الولايات المتحدة على استخدام أدوات السيطرة التي نجحت في سياق تاريخي لم يعد قائما
أوروبا
هي أول من يدفع ثمن هذا التحوّل، فالقارة التي شكّلت العمق السياسي والاقتصادي
للمشروع الغربي، تُصوَّر اليوم ككيان فاقد للقدرة على المبادرة، مثقل بالأزمات،
وعاجز عن اتخاذ قرارات
استراتيجية مستقلة. الوثيقة لا تنظر إلى أوروبا بوصفها
شريكا في صناعة النظام الدولي، بل كمنطقة ينبغي احتواؤها ومنعها من التحول إلى
مصدر عدم يقين. الإهانة هنا ليست رمزية بل عملية، وهي تتمثل في إقصاء أوروبا عن
مراكز القرار، وتحويلها إلى تابع أمني يعتمد على المظلة الأمريكية دون أن يمتلك حق
التأثير في شروط استخدامها.
هذا
التراجع الأوروبي لا ينفصل عن أزمة أعمق تتعلق بانحلال النموذج الثقافي والسياسي
للقارة. أوروبا فقدت قدرتها على إنتاج سردية جامعة، ومعها فقدت ثقتها بذاتها كفاعل
تاريخي. القيم التي كانت تشكّل أساس نفوذها الناعم تحوّلت إلى شعارات فاقدة
للفعالية، في ظل انقسامات داخلية حادة وصعود تيارات ترفض فكرة المشروع الأوروبي من
أساسه وتمثل هذا في حرب الإبادة التي تعرضت لها غزة بدعم شامل من الأوروبيين
للكيان الصهيوني. هذا الفراغ القيمي جعل القارة عاجزة عن مقاومة إعادة تعريف دورها
من الخارج، وأتاح للولايات المتحدة فرض مقاربة أمنية لا ترى في أوروبا سوى مجال
جغرافي تجب حمايته، لا عقلا استراتيجيا يجب إشراكه.
في
هذا السياق، يتآكل حلف شمال الأطلسي من الداخل. فالناتو لم يعد تحالفا بين أطراف
متقاربة الرؤية، بل أصبح أداة تنفيذ لسياسات تُصاغ في مركز واحد. هذا التحول لا
يعني انهيار الحلف عسكريا، بل تفريغه من مضمونه السياسي. فحين يغيب التوازن داخل
أي تحالف، يتحول إلى عبء على أعضائه بدل أن يكون مصدر أمان. الخطر هنا لا يكمن في
تفكك الناتو، بل في استمراره كهيكل جامد يفاقم الانقسامات بدل أن يديرها.
بالتوازي
مع ذلك، تعكس الوثيقة انتقالا حاسما في مفهوم الأمن القومي الأمريكي نحو مركزية
الطاقة، والطاقة لم تعد موردا استراتيجيا فحسب، بل أداة سيطرة شاملة. الولايات
المتحدة تسعى إلى التحكم بسلاسل إنتاج ونقل وتسعير الطاقة عالميا، بما يتيح لها
التأثير في استقرار الدول وقراراتها السيادية. وهذا التوجّه يعكس إدراكا بأن
الحروب القادمة لن تُخاض فقط بالسلاح، بل بالتحكم بالموارد الحيوية التي تقوم
عليها الاقتصادات الحديثة.
وتبرز
خطورة هذا المنطق في التعامل مع الممرات البحرية الاستراتيجية، مثل البحر الأحمر
ومضيق هرمز؛ فهذه المناطق تُعاد صياغتها في الوثيقة بوصفها نقاط تحكم لا ممرات
عبور. الخطاب المعلن عن حماية الملاحة يخفي واقعا يتمثل في عسكرة متزايدة وتحويل
الجغرافيا إلى أداة ضغط سياسي، فحين تصبح طرق التجارة العالمية خاضعة لإرادة قوة
واحدة، يفقد النظام الدولي أحد أهم عناصر توازنه، ويتحوّل الاستقرار إلى حالة
مؤقتة مشروطة بمدى الامتثال.
أما
في نصف الكرة الغربي، فتعود الولايات المتحدة إلى منطق الهيمنة المغلقة، مدفوعة
بهاجس فقدان النفوذ أمام قوى صاعدة. الوثيقة تعكس خوفا من الاختراق الاقتصادي
والسياسي، لكنها لا تقدّم استجابة بنيوية لهذا التحدي، بل تكتفي بإعادة إنتاج
سياسات الاحتواء والمنع. هذا النهج لا يعالج جذور المشكلة، بل يؤجلها، ويعمّق
الشعور بالعداء داخل دول المنطقة. الهيمنة هنا لا تُمارس بوصفها قيادة، بل بوصفها
ضبطا قسريا، وهو ما يولّد مقاومة صامتة تتراكم بمرور الوقت.
الإشكالية الأعمق في الوثيقة تكمن في بنيتها الفكرية، فهي تعترف ضمنيا بتآكل القدرة الأمريكية على الضبط، لكنها تردّ على ذلك بمزيد من المركزية والتشدد
في
الشرق الأوسط، تتجسد الرؤية الأمريكية بأوضح صورها من خلال محاولة فرض إسرائيل
كقوة مهيمنة أمنيا وعسكريا. الوثيقة لا تنطلق من منطق التوازن أو الأمن الجماعي،
بل من فرضية أن التفوق المطلق لطرف واحد كفيل بضبط الإقليم، وهذا الافتراض يتجاهل
الطبيعة المعقّدة للصراعات في المنطقة، ويختزل الأمن في معادلة القوة العسكرية.
النتيجة المتوقعة ليست الاستقرار، بل إعادة إنتاج دوامات الصراع، لأن التفوق غير
المتوازن يدفع الأطراف الأخرى إلى البحث عن أدوات ردع غير تقليدية.
الإشكالية
الأعمق في الوثيقة تكمن في بنيتها الفكرية، فهي تعترف ضمنيا بتآكل القدرة
الأمريكية على الضبط، لكنها تردّ على ذلك بمزيد من المركزية والتشدد. هذا التناقض
يجعلها وثيقة لإدارة التراجع لا لتجاوزه، فالعالم يتجه نحو تعددية معقّدة تتطلب
أدوات تفاوضية وشراكات مرنة، بينما تُصرّ الولايات المتحدة على استخدام أدوات
السيطرة التي نجحت في سياق تاريخي لم يعد قائما.
في
المحصلة، لا ترسم وثيقة الأمن القومي الأمريكية أفقا لأمن عالمي أكثر استقرارا، بل
تقدّم خريطة لإدارة عالم مضطرب عبر الهيمنة والضغط. أوروبا تُهمَّش، والتحالفات
تُفرَّغ من مضمونها، والطاقة تُحوَّل إلى سلاح، والجغرافيا تُعسكر، والتفوق
يُقدَّم بوصفه بديلا عن التوازن. هذه المقاربة قد تؤمّن مكاسب قصيرة الأمد، لكنها
تحمل في طياتها مخاطر استراتيجية عميقة، لأنها تُسرّع تفكك النظام الدولي بدل
إعادة بنائه. ومن هنا، يمكن القول إن الوثيقة لا تعبّر عن قوة في ذروة نفوذها، بل
عن قوة تحاول تأجيل لحظة الاعتراف بأن العالم لم يعد قابلا للإدارة من مركز واحد.
x.com/fatimaaljubour