في
لحظات التاريخ الكبرى، لا يعود العالم كما كان، هناك أحداث تتجاوز حدودها
الجغرافية لتصبح مرآة تكشف طبيعة النظام الدولي كله، وتفضح الأقنعة التي ارتدتها
القوى العظمى ردحا طويلا من الزمن. مأساة
غزة واحدة من تلك اللحظات الفاصلة، فهي
لم تعد مجرد حرب بين قوة احتلال وشعب أعزل، بل تحولت إلى امتحان عالمي؛ من يقف مع
العدالة، ومن ينحاز للقوة العمياء؟
غزة
اليوم ليست مجرد مدينة محاصرة، بل بوابة تعرّي خطاب الغرب عن حقوق الإنسان، وتكشف
التناقض الفاضح بين ما يُرفع من شعارات وما يُمارس على الأرض. ومع كل قصف على حيّ،
ومع كل جنازة لطفل، تتهاوى صورة عالم ادعى طويلا أنه حامي القانون الدولي.
وسط
هذه الصورة القاتمة، برزت
هولندا لتمنح المشهد بُعدا مختلفا؛ استقالة وزير
خارجيتها كاسبار فيلدكامب، ثم انسحاب رفاقه من الحكومة، لم تكن مجرد مناورة سياسية،
لقد كانت إعلانا أخلاقيا بأن الاستمرار في السلطة بينما يُقتل الأبرياء في غزة هو
خيانة للقيم. إنها صرخة خرجت من قلب مؤسسة أوروبية، لتقول إن
الضمير لم يمت تماما،
وأن في الغرب نفسه من يرفض أن يكون شريكا في الجريمة.
القضية الفلسطينية لم تعد شأنا خارجيا يمكن تجاهله، بل باتت تهزّ أركان الحكومات، وتفرض على السياسيين أن يختاروا إما الاصطفاف مع العدالة، أو الانحناء أمام لوبيات الضغط الصهيونية وحسابات التحالفات
هذه
الخطوة رمزية أكثر مما هي عملية، لكنها تحمل دلالات عميقة. فهي تعني أن القضية
الفلسطينية لم تعد شأنا خارجيا يمكن تجاهله، بل باتت تهزّ أركان الحكومات، وتفرض
على السياسيين أن يختاروا إما الاصطفاف مع العدالة، أو الانحناء أمام لوبيات الضغط
الصهيونية وحسابات التحالفات.
أوروبا
والغرب عموما يعيشان اليوم أزمة شرعية داخلية؛ المواطن الغربي يرى بعينيه المجازر
في غزة، ويسمع في الوقت نفسه حكوماته تبرر دعمها غير المشروط لإسرائيل. هذا
التناقض يخلق فجوة خطيرة بين الشعوب والسلطات، فجوة لم تعد تُردم بخطابات براقة.
لقد
كان الغرب يفاخر طويلا بأنه نصير حقوق الإنسان، لكنه حين وُضع أمام امتحان غزة،
انكشف على حقيقته فهو منحاز إلى القوة، حتى لو كانت ترتكب جرائم ضد الإنسانية.
وهذا ما يجعل الاستقالات الهولندية لحظة مفصلية؛ لأنها لم تُعبّر فقط عن خلاف
سياسي، بل عن عمق الشرخ بين خطاب أوروبا وضمير شعوبها.
المثير
أن هذا الموقف لم يبقَ محصورا في حدود هولندا. فالمظاهرات في لندن، وباريس، ومدريد،
ونيويورك، وتشيلي، وجنوب إفريقيا.. كلها تؤكد أننا أمام ظاهرة عالمية جديدة، وهي
بروز جبهة إنسانية كبرى تتجاوز الحدود والقوميات. لم يعد التضامن مع فلسطين مجرد
شأن عربي أو إسلامي، بل صار قضية عالمية يتبناها طلاب الجامعات في الغرب، والعمّال
في أمريكا اللاتينية، والمفكرون في آسيا وأفريقيا.
هذه
الجبهة لم تتشكل بقرار سياسي، بل وُلدت من رحم المأساة. ومن هنا تأتي قوتها لأنها
حركة شعوب قبل أن تكون سياسة دول، ولأنها قائمة على إدراك إنساني مشترك بأن ما
يجري في غزة ليس شأنا بعيدا، بل جريمة تهدد الضمير العالمي كله.
الاستقالات
الهولندية ليست إلا رمزا في لوحة أكبر، لوحة تكشف سقوط الأقنعة في زمن غزة، وتعلن
ولادة وعي عالمي جديد. هذا الوعي لم يعد يقبل المساومة، وهو يمهّد لتحولات
استراتيجية ستُغيّر وجه العالم، وتدفع
إسرائيل نحو عزلة لم تعرفها من قبل.
ما
يحدث اليوم لا يمكن اختزاله في مشاهد التضامن أو في البيانات السياسية المتفرقة؛
نحن أمام تحوّل استراتيجي عميق، ففلسطين لم تعد مجرد قضية شعبية تتداولها الجماهير
في الشوارع، بل صارت محورا يُعيد تعريف موازين القوى والمعايير الأخلاقية في
النظام الدولي.
الاستقالات
في هولندا كانت بمثابة ناقوس إنذار، إذا بدأت حكومات أوروبية تفقد وزراءها بسبب
التضامن مع فلسطين فذلك يعني أن الضغط الشعبي بلغ مستوى لم يعد قابلا للتجاهل. هذا
لا يغيّر فقط في الداخل الأوروبي، بل يرسل إشارات قوية إلى بقية العالم بأن
إسرائيل لم تعد "خطا أحمر" لا يمكن الاقتراب منه.
لطالما
اعتمدت إسرائيل على مظلة حماية غربية، سياسية ودبلوماسية وعسكرية، هذه المظلة كانت
تحميها من العقوبات، وتمنحها شرعية مصطنعة في المحافل الدولية. لكن مع تزايد
الانقسامات داخل الغرب نفسه، ومع عجز الحكومات عن تبرير مواقفها لشعوبها، بدأت هذه
المظلة تتصدع.
الولايات
المتحدة لا تزال داعما أساسيا، لكنها تواجه اليوم عزلة غير مسبوقة في مجلس الأمن
والجمعية العامة للأمم المتحدة. حتى داخل أمريكا، الجامعات الكبرى شهدت اعتصامات
متواصلة، والجيل الشاب بات أكثر جرأة في معارضة الدعم غير المشروط لإسرائيل. هذه
التحولات لا تعني تغييرا فوريا في السياسات، لكنها تؤسس لمرحلة تتراجع فيها القدرة
على فرض الهيمنة المطلقة.
من
زاوية أخرى، القضية الفلسطينية منحت الجنوب العالمي منصة يعبر من خلالها عن رفضه
لهيمنة الغرب. دول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية باتت أكثر وضوحا في مواقفها؛
فإما الاعتراف بدولة فلسطين، أو قطع العلاقات مع إسرائيل، أو الانضمام إلى حملات
المقاطعة الاقتصادية والأكاديمية.
هذا
الاصطفاف لا ينبع فقط من التعاطف مع الفلسطينيين، بل أيضا من قراءة سياسية بأنّ
الموقف من غزة أصبح معيارا لمدى استقلالية أي دولة عن النفوذ الغربي. هنا، تتحول
فلسطين إلى رمز جيواستراتيجي يعيد ترتيب التحالفات بين الشمال والجنوب، ويفتح
المجال لتوازنات جديدة في النظام الدولي.
المعضلة
الكبرى لإسرائيل أنها لم تعد قادرة على إخفاء حقيقتها. فلسنوات طويلة، نجحت في
تسويق نفسها كـ"ديمقراطية" في بحر من الاستبداد، وكـ"ضحية"
تسعى للبقاء وسط محيط معادٍ، لكن صور الدمار في غزة، وحجم المآسي التي تنقلها
الشاشات لحظة بلحظة، جعلت هذه السردية تنهار كاملة وظهر زيفها للعالم أجمع.
اليوم،
إسرائيل تواجه مرآة عالمية تعكس حقيقتها؛ كيانا استعماريا يمارس التطهير العرقي
ويفرض نظام فصل عنصري. هذه الصورة لم تعد مجرد خطاب سياسي يردده المعارضون، بل
صارت حقيقة بصرية ووجدانية يعيشها العالم يوميا. ومن هنا، فإن خسارة إسرائيل ليست
فقط في الميدان العسكري، بل في الميدان الأخلاقي والرمزي الذي يحدد مستقبلها على
المدى الطويل.
إذا استمر هذا التيار العالمي في الاتساع، فإن إسرائيل ستجد نفسها في عزلة شبيهة بتلك التي واجهها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. قد يستغرق ذلك سنوات، لكنه مسار تاريخي لا يمكن وقفه
أكثر
ما يميز اللحظة الحالية هو أن فلسطين تجاوزت كونها "قضية قومية" لتصبح
اختبارا إنسانيا كليا. لم يعد السؤال: "هل أنت مع الفلسطينيين أو
الإسرائيليين؟"، بل أصبح: "هل أنت مع العدالة أم مع الإرهاب والإبادة
الجماعية؟ مع الضحية أم مع الجلاد؟ مع القيم أم مع المصالح العمياء؟".
هذا
التحول يجعل من غزة مرآة تعكس حقيقة كل طرف؛ الحكومات، والأحزاب، والمثقفين، وحتى
الأفراد، ومن خلال هذا الاختبار يعاد رسم خريطة العالم، فمن يقف مع فلسطين يكتسب
شرعية أخلاقية، ومن يصمت أو يبرر العدوان يفقدها.
إذا
استمر هذا التيار العالمي في الاتساع، فإن إسرائيل ستجد نفسها في عزلة شبيهة بتلك
التي واجهها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. قد يستغرق ذلك سنوات، لكنه مسار
تاريخي لا يمكن وقفه. فما دامت فلسطين قادرة على تحريك الضمير العالمي، وما دامت
الشعوب تصر على رفع علمها في كل ساحة، فإن إسرائيل ستظل في موقع المتهم، مهما بلغت
قوتها العسكرية.
ختام
القول، لقد شكّلت استقالة الوزراء في هولندا لحظة رمزية كبيرة، لحظة انكشاف العالم
أمام نفسه. ومن هذه اللحظة، اتضح أن فلسطين ليست نزاعا سياسيا، بل هي بوصلة
أخلاقية تعيد تحديد موقع كل دولة وقوة وفرد في النظام الدولي.
إسرائيل
التي بنت قوتها على الدعم الغربي تواجه اليوم عزلة أخلاقية تتوسع يوما بعد يوم،
فيما ينهض تيار عالمي مناصر لفلسطين يوحّد الشعوب عبر القارات. إنها بداية مرحلة
جديدة، مرحلة يصبح فيها الوقوف مع فلسطين ليس خيارا سياسيا فحسب، بل شهادة على
الانتماء للإنسانية نفسها.
x.com/fatimaaljubour