قضايا وآراء

في إسطنبول.. قسّ وحاخام وشيخ في جبهة واحدة ضد الصهيونية

عدنان حميدان
"لم يجتمع القسّ والحاخام والشيخ ضد الصهيونية فقط.. اجتمعت الضمائر، وتصافحت الخنادق، وتوحدت البوصلة"- اللجنة المنظمة
"لم يجتمع القسّ والحاخام والشيخ ضد الصهيونية فقط.. اجتمعت الضمائر، وتصافحت الخنادق، وتوحدت البوصلة"- اللجنة المنظمة
شارك الخبر
في إسطنبول، لم يكن الاجتماع عابرا، ولا المشهد مألوفا، ولا اللحظة عادية. هناك، على ضفاف التاريخ الذي لا يزال يُكتب بالدم والوعي، اجتمع القسّ والحاخام والشيخ، لا لاختلافٍ عقائدي، بل لاتفاقٍ أخلاقيٍّ واضح: الوقوف صفا واحدا في وجه الصهيونية، ورفض الإبادة، ومقاومة محاولات تصفية القضية الفلسطينية.

تشرفتُ بأن أكون واحدا من بين كوكبة ضمّت قرابة 300 شخصية فلسطينية وعربية وإسلامية وعالمية، اجتمعوا تحت مظلة مؤتمر مؤسسة القدس الدولية وشركائها. 300 وجه، بـ300 قصة، و300 طريق، لكن ببوصلة واحدة تشير إلى القدس، وبقلبٍ واحد ينحاز لغزة وفلسطين.

كان المشهد لافتا حدّ الإدهاش: رجال دين من الديانات الثلاث، يجلسون تحت سقف واحد، لا يتجادلون، بل يتعاهدون. قسٌّ مسيحي يرى في القدس ضميرَ الإيمان، وحاخامٌ يهودي يعلن براءة دينه من الصهيونية، وشيخٌ مسلم يحمل أمانة الأمة في صوته ونبرته. لحظة تقول، بلا مواربة، إن الصراع ليس دينيا كما يحاولون تصويره، بل هو صراع حقّ مع مشروع استعماريٍّ إحلاليٍّ يستخدم الدين قناعا.

ازددت قناعة أن فلسطين ليست قضية العرب وحدهم، ولا المسلمين فقط، بل هي قضية الأحرار في كل مكان

وفي ذروة تلك اللحظات، تلا الدكتور محمد سليم العوا البيانَ الختامي باسم المجتمعين، فجاء واضحا لا لبس فيه: رفضٌ قاطع للتطبيع، ورفضٌ لمؤامرات تصفية القضية، وإدانةٌ صريحة لجرائم الإبادة، وتعهدٌ بالسعي لملاحقة مرتكبيها في مختلف المحافل القانونية والسياسية والإعلامية. لم يكن البيان مجرد كلمات، بل تعاقدا أخلاقيا جديدا أمام التاريخ.

لكن من بين كل تلك الوجوه، استوقفني وجهٌ واحد على نحوٍ خاص؛ رجل قادم من جنوب تايلاند، بملامح متعبة من طول السفر، وبعينين ممتلئتين بالشغف. جاء لأجل القدس، لأجل غزة، لأجل فلسطين، كأن المسافة بين بانكوك وإسطنبول لا تساوي شيئا حين تكون الوجهة هي الحق. جلس بيننا، يتابع، ويصغي، ويتفاعل وكأنه من أبناء القدس نفسها.

وفي استراحة قصيرة، علمنا أن إعصارا ضرب منطقته، مخلفا خسائر فادحة في البيوت والأرواح. جاءه الخبر باردا على هاتفه، ساخنا في قلبه. توقعت -كما نتوقع نحن دائما- أن يعتذر، أن يشدّ الرحال عائدا، أن يقول: "أهلي أهم الآن"، لكنه لم يفعل، بقي. قال بابتسامة موجوعة: "غزة الآن أيضا في الإعصار". لحظتها فهمت لماذا لم يأتِ وحده.. جاء ومعه وطنه، وألمه، ومطره، ورياحه.

عندها ازددت قناعة أن فلسطين ليست قضية العرب وحدهم، ولا المسلمين فقط، بل هي قضية الأحرار في كل مكان. هي المرآة التي تنعكس فيها أخلاق العالم؛ فمن وقف معها وقف مع إنسانيته، ومن خذلها خسر نفسه قبل أن يخسرها.

لسنا سذّجا لنظن أن مؤتمرا واحدا سيوقف حربا، أو أن بيانا واحدا سيهزم ترسانة الاحتلال. نعرف أن الطريق طويل، وأن كلفة الموقف باهظة، وأن الدم لا يجفّ ببيان، لكننا نؤمن بشيء أعمق: الأثر التراكمي. نؤمن أن كل مؤتمر حجرٌ في جدار الوعي، وكل لقاء بذرةٌ في تربة التاريخ، وكل موقف معلن مسمارٌ جديد في نعش الرواية الصهيونية.

لم تكن فلسطين مجرد موضوع على جدول الأعمال، كانت الروح الحاضرة في كل كلمة، والوجع الذي يتنقل بين الصفوف، والسؤال الذي يلاحق كل متحدث: ماذا سنفعل أكثر؟

هذه اللقاءات لا تغيّر الواقع دفعة واحدة، لكنها تغيّر اتجاهه. لا تهدم الجدار مرة واحدة، لكنها تُضعفه شقا شقا. تصنع شبكة وعي عابرة للحدود، وتخلق لغة مشتركة بين أديان وثقافات، كلها تجتمع عند كلمة واحدة: لا للإبادة، لا للاحتلال، لا لتزييف الحقيقة.

في القاعة، لم تكن فلسطين مجرد موضوع على جدول الأعمال، كانت الروح الحاضرة في كل كلمة، والوجع الذي يتنقل بين الصفوف، والسؤال الذي يلاحق كل متحدث: ماذا سنفعل أكثر؟ لم يعد كافيا أن نشجب، ولا مجديا أن نكتفي بالتنديد. العالم يعيش لحظة اختبار أخلاقي حاد، والحياد فيها صار تواطؤا مستترا.

خرجتُ من المؤتمر أكثر يقينا بأن غزة لا تقاتل وحدها، حتى وإن تُركت وحيدة في الميدان. ثمة من يحمل صوتها في القاعات، وصورتها في المنابر، ودمها في ضميره، وثمة من يلاحق قاتلها بالقانون حين تعجز السياسة، ويطارده بالرواية حين يخونه الإعلام.

وفي إسطنبول، لم يجتمع القسّ والحاخام والشيخ ضد الصهيونية فقط.. اجتمعت الضمائر، وتصافحت الخنادق، وتوحدت البوصلة، وقال العالم -ولو همسا- إنه لم يعد قادرا على الصمت طويلا.

هذه المؤتمرات ليست ترفا فكريا، ولا نشاطا بروتوكوليا. إنها معارك من نوع آخر: معارك الوعي، ومعارك الرواية، ومعارك الشرعية الأخلاقية. ومع كل لقاء، تتراكم الحجارة الصغيرة في طريق طويل.. طريق قد يتأخر، لكنه لا يضيع.
التعليقات (0)