هذا هو الجزء الثالث والأخير من قراءة كتبها
الكاتب والباحث المصري جمال سلطان عن المستشرق الحاج عبد الكريم يوليوس جرمانوس،
الذي لم يكن مجرد باحث أو مفكر، بل رحّالة ومصلح ومُحب للإسلام والمسلمين.
في هذا الجزء، الذي تنشره
"عربي21" بالتزامن مع نشره على صفحة جمال سلطان على "فيسبوك"،
يأخذنا الكاتب في رحلة عبر أهم محطات حياته، من رحلته الملهمة إلى الحج، ودفاعه
المستميت عن الإسلام في أوروبا، إلى علاقاته الإنسانية وقصة هداية زوجته، ليكشف
أمامنا صورة شاملة لهذا المفكر الذي جمع بين العلم والخلق والالتزام الديني.
أديب سعودي كان سببًا في هداية زوجته إلى
الإسلام
رحلة "جرمانوس" إلى الحج كانت
ملهمة له، وغمرته بالسعادة، وأصبح لقبه الجديد، والذي التصق به بعد ذلك لنهاية
عمره هو "الحاج عبد الكريم يوليوس جرمانوس"، ويحب أن ينادى دائما بلقب
"الحاج عبد الكريم"، وطاف بعد ذلك بعدد من بلدان الشرق التي كانت حواضر
للخلافة الإسلامية التي امتدت بظلالها السياسية والحضارية إلى مئات السنين، فذهب
إلى الشام وإلى العراق، ثم عاد الحاج عبد الكريم إلى بلاده "
المجر"
ليستكمل رحلة التدريس في جامعة "بودابست"، حيث نافح عن الإسلام
والمسلمين بضراوة أمام كتابات المستشرقين، وكشف الكثير من الأغاليط، وكان راصدا
عميق النظرة إلى أساليب المستشرقين في إعطاء صورة مشوهة للحضارة الإسلامية،
وتركيزهم على جوانب معينة في هذا التاريخ الطويل ليرسموا من خلالها صورة مقصودة
بعيدة عن جوهر رسالة التوحيد التي صنعت هذه الحضارة.
كتب يقول عن خبث الدراسات الاستشراقية:
"جل كتاباتهم تدور حول أوهام المتصوفة، وما يقال عن الحلول والاتحاد ووحدة
الوجود وكأنه أصل من أصول الإسلام، فإذا ترك الاستشراق دائرة التصوف إلى الأدب
فالحديث حديث المجون والزندقة والإباحية ونشر كتب الانحراف، مع تسليط الأضواء على
أمثال بشار وحماد وأبي نواس، أما كتاب الله عز وجل فلا ينظرون إلى هدايته الحكيمة،
وقوانينه السياسية التي قفزت بالعالم كله إلى طريق الأخوة والحرية والمساواة،
ولكنهم يتحدثون عن القراءات الشاذة، ويقفون الوقفات المخطئة أمام نقول في التراث
كتبت دون تحقيق، ويشم منها ما يبعث الشك، مع وضوح بطلانها أمام الناظر المتفقه؛
وهكذا يبحثون في كل منحى علمي عما يثير العواصف في العقول الآمنة كيلا تستقر على
نهج سديد".
ترك "جرمانوس" للمكتبة العربية العديد من الكتب والأبحاث، مثل كتاب (تاريخ الأدب العربي)، وكتاب (الشعراء العرب من الجاهلية حتى يومنا هذا) وكتاب (الجغرافيون العرب)، وكتاب "اكتشاف الجزيرة العربية"، وكتاب "التيارات الحديثة في الإسلام"، كذلك كتاب "ابن الرومي" وهو دراسة في شعر الشاعر المعروف، إضافة إلى كتابه "الله أكبر" الذي دون فيه وقائع رحلته للحج، وله مؤلفات أخرى بالألمانية والإيطالية.
كان مما يوجع قلب الحاج عبد الكريم، ويحزنه
، أن زوجته ما زالت على دينها مسيحية، وكان يحبها ويقدرها، وهي سيدة مثقفة جدا
وواسعة الاطلاع، ولطالما حلم بهدايتها إلى دين الله، وكان يكثر في دعائه أن يوفقها
الله إلى الإسلام، حتى وقعت المفاجأة التي ملأته بالسرور والسعادة، إذ يسر الله
لها الهداية، وقد كتب عن أمله في هدايتها يقول : " إنني أحمد الله تعالى على
أن منّ عليّ بنعمة الإسلام، وهداني إلى دين نبي الرحمة والسلام، وأودع في قلبي حب
لغة القرآن، وكان هناك شيء واحد يخز في نفسي وخزاً أليماً ألا وهو أن زوجتي الكريمة
الفاضلة تدين بدين غير الإسلام، ألا وهو النصرانية، وإن زوجتي امرأة واسعة الثقافة
والعلم شديدة التدين في ملتها كثيرة الإحسان طيبة القلب من أسرة كريمة من خير
الأسر في المجر، تمتاز بمزايا رائعة وخلائق فاضلة ولها عندي تسع سنوات مرت كلحظات
من السعادة التي نحن فيها إلا أن عدم اقتناعها لدين الحق كان مثار حزني وألمي".
والغريب أن من أخذ بيدها إلى الإسلام،
وأقنعها به، لم يكن زوجها، وإنما الأديب السعودي الراحل أحمد عبد الغفور عطار،
رحمه الله، مؤسس جريدة عكاظ السعودية الشهيرة، والأديب والمحقق الكبير ـ بعد ذلك ـ
بعد تفرغه للعمل الأدبي والعلمي وتحقيق كتب التراث، وقد أرسل له الحاج عبد الكريم
رسالة طويلة مؤثرة، يشكره فيه شكرا وافرا على ما أنعم الله به عليه وعليهم من
هداية زوجته إلى الإسلام، وكان يقول أن
هذا الحدث من أسعد الأوقات التي مرت عليه بعد دخوله الإسلام.
كان الحاج عبد الكريم جرمانوس يتميز بشخصية
هادئة ودودة، لا يتعصب، ولا يقسو في حوار، ولا يحتد على مناقش، لا تفارق البسمة
وجهه، يصفه صديقه الدكتور محمد رجب البيومي بقوله : في كل أدوار حياته هدوؤه
الباسم، ونفسه المتسامحة، فهو لا يشتط في جدال، ولا يعنف في مؤاخذة، وبهدي رائع من
خلقه المتسامح قابل أقوال معارضيه بالابتسام، وعقب عليها بالتي هي أحسن، فآثروا
السلامة ولم يخوضوا معه في لجاج هو أول من ينأى عنه إذا خالف آداب البحث وسنن
الحوار.
ترك "جرمانوس" للمكتبة العربية
العديد من الكتب والأبحاث، مثل كتاب (تاريخ الأدب العربي)، وكتاب (الشعراء العرب
من الجاهلية حتى يومنا هذا) وكتاب (الجغرافيون العرب)، وكتاب "اكتشاف الجزيرة
العربية"، وكتاب "التيارات الحديثة في الإسلام"، كذلك كتاب
"ابن الرومي" وهو دراسة في شعر الشاعر المعروف، إضافة إلى كتابه
"الله أكبر" الذي دون فيه وقائع رحلته للحج، وله مؤلفات أخرى بالألمانية
والإيطالية.
وقد حظي الحاج عبد الكريم بشهرة كبيرة في
الدوائر "العلمائية" بالعالم الإسلامي، عرفانا لفضله في الدفاع عن
الإسلام، وعطائه العلمي، ونبوغه في معارف كثيرة، حتى تم اختياره عضوا بالمراسلة
بالمجمع العلمي في القاهرة "مجمع الخالدين"، وعضوا بالمجمع العلمي في
بغداد، وعضوا بالمجمع العلمي في دمشق، وقد استقر في ختام حياته في بودابست
للتدريس، حتى أحيل إلى التقاعد، وقد بذل جهدا كبيرا في جمع شمل المسلمين في بلاده
إذ ألف من بينهم جماعة تنظم شؤونهم، كان عددهم وقتذاك قرابة ألفي مواطن مجري،
واستطاعوا هنالك أن يحملوا الحكومة على الاعتراف بالإسلام دينا من الأديان الرسمية
في المجر، مستفيدين من المكانة الرفيعة التي كان يحظى بها "الحاج عبد
الكريم" في وطنه، حتى توفي رحمه الله تعالى في 7 نوفمبر عام 1979م، عن 96
عاما، بعد أن قضى أكثر من نصف قرن في خدمة الإسلام والمسلمين بكل حب وإخلاص وتفان،
ودفن هناك بعد جنازة رسمية مهيبة، خاصة وأنه كان عضوا في البرلمان أيضا، كما كان
الوحيد الذي تم استثناؤه من شرط الانضمام إلى الحزب الشيوعي الحاكم وقتها، نظرا
لفرادة حالته وشهرته في العالم الإسلامي وأوربا، وتخصصه العلمي والديني.
إقرأ أيضا: رحلة العقل والروح.. المفكر الذي تحدى الظنون واكتشف الإسلام (1 من 3)
إقرأ أيضا: رحلة العقل والروح.. المفكر الذي تحدى الظنون واكتشف الإسلام (2 من 3)