العلاقات بين
أفغانستان وباكستان قديمة ومعقدة، ويعود جذور الخلاف
الحدودي بين البلدين إلى مطلع
القرن العشرين، بعد أن جرى ترسيم الحدود بين إمارة أفغانستان في عهد الأمير عبد
الرحمن، والهند البريطانية التي كانت تضم آنذاك أراضي الهند وباكستان وبنغلاديش
الحالية.
تم ترسيم ما
يُعرف اليوم بـ"خط دوراند" بطول يقارب 2600 كيلومتر، ليفصل بين
أفغانستان وباكستان، غير أن هذا الخط أثار إشكالية عميقة، إذ قسّم قبائل
البشتون
بين جانبي الحدود، فبات أفراد القبيلة الواحدة يعيشون في دولتين مختلفتين، ما جعل
الخط مصدرا دائما للتوتر بين البلدين.
وعندما رُسمت
الحدود كانت أفغانستان تعيش حالة من الضعف، ولذلك لم يعترف أيٌّ من الحكام الذين
تعاقبوا عليها لاحقا بخط دوراند رسميا، معتبرين أنه يقسم الشعب الأفغاني ويفصل
أبناء العرق البشتوني والقبائل والعائلات على جانبي الحدود بين دولتين.
هذا الخط أثار إشكالية عميقة، إذ قسّم قبائل البشتون بين جانبي الحدود، فبات أفراد القبيلة الواحدة يعيشون في دولتين مختلفتين، ما جعل الخط مصدرا دائما للتوتر بين البلدين
لاحقا ظهرت
شخصيات أفغانية معروفة تبنّت فكرة توحيد البشتون، من أبرزها عبد الغفار خان،
المعروف أيضا بـبادشاه خان، الذي دعا في البداية إلى وحدة الهند، ثم بعد قيام
باكستان طرح مشروعا سماه "بشتونستان" أي "أرض البشتون"، يهدف
إلى ضمّ المناطق ذات الأغلبية البشتونية في غرب باكستان وأفغانستان في كيان واحد.
غير أن عبد
الغفار خان أدرك لاحقا أن مشروع "بشتونستان" غير واقعي، وأن بعض الساسة
الأفغان يوظفونه لإشعال الخلافات مع باكستان، فتراجع عنه، ومع ذلك، بقي الشعور
القومي البشتوني حاضرا، وظلت القبائل المنتشرة على جانبي الحدود تطالب بمزيد من
اللامركزية، خاصة أن مناطقها كانت تتمتع تاريخيا بقدر من الحكم الذاتي بعيدا عن
سلطة المركز في إسلام آباد.
وعندما تولى
برويز مشرف الحكم في باكستان بعد أحداث الحادي عشر من أيلول/ سبتمبر، تعرض لضغوط
أمريكية شديدة لدفع حركة
طالبان إلى تسليم أسامة بن لادن ومساعديه، لكن الحركة
رفضت، وبحكم التحالف القائم بين واشنطن وإسلام آباد، تعاونت باكستان مع الولايات
المتحدة في غزو أفغانستان، الأمر الذي أثار غضب البشتون وزاد من تعقيد الموقف.
واجتمع في تلك
المرحلة البعدان القومي والديني لدى البشتون، إذ تحولت الحركة القومية التقليدية
التي كانت تميل في فترات سابقة إلى القوميين أو اليساريين، إلى حركة يغلب عليها
الطابع الديني، بعدما تصدّر المشهد طلاب المدارس الديوبندية المتأثرون بفكر
طالبان.
ورغم ما يُقال عن
أن حركة طالبان نشأت بدعم من الاستخبارات العسكرية الباكستانية، فإن الموقف تغيّر
جذريا بعد الضغوط الأمريكية على إسلام آباد لإسقاط نظام طالبان، ووجدت باكستان
نفسها حينها في مأزق صعب، واضطر الرئيس برويز مشرف إلى الانصياع للمطالب
الأمريكية، ما أثار سخط التيارات الدينية والقومية داخل البلاد.
أدّى هذا التحوّل
إلى موجة من العنف، إذ حاولت بعض الجهات اغتيال مشرف وعدد من كبار المسؤولين
الباكستانيين، واندلعت مقاومة مسلحة بين البشتون استندت إلى دوافع قومية ودينية في
آن واحد.
هؤلاء البشتون
المتدينون، خريجو المدارس الديوبندية، ذهب بعضهم إلى مقاومة الحكومة المركزية
لاعتبارات قومية ودينية، بذريعة عدم تطبيقها للشريعة الإسلامية والتعاون مع
الولايات المتحدة، ومن رحم هذه الحركات نشأت حركة طالبان باكستان.
تتقاطع هذه
الحركة فكريا مع حركة طالبان أفغانستان، وكان مؤسسها بيت الله محسود يعتبر الملا
عمر مرجعيته الروحية و"أمير المؤمنين"، غير أن هذا التقارب لا يعني أن
طالبان الأفغانية منحت نظيرتها الباكستانية تفويضا لمهاجمة الجيش أو الحكومة في
باكستان.
وفي الواقع، ثمة
اختلاف جوهري بين الحركتين؛ فطالبان أفغانستان ركزت على مقاومة الاحتلال الأجنبي
وإرساء الاستقرار داخل البلاد، بينما وجهت طالبان باكستان سلاحها نحو الحكومة
المركزية التي تراها تابعة للغرب ولا تلتزم بتطبيق الشريعة الإسلامية، وهذه النقطة
في الحقيقة ملتبسة أحيانا.
وعندما تشكّلت
حركة طالبان الأفغانية في مرحلتها الأولى، كانت العلاقات بين باكستان وحركات
المجاهدين خلال الغزو السوفييتي تتسم بالتعاون الوثيق، إذ دعمت إسلام آباد تلك
الفصائل لوجستيا وسياسيا.
لذلك، كان من
المتوقع أن تكون علاقة الإسلاميين، سواء رموز المرحلة الأولى مثل حكمتيار ورباني وسياف
أو طالبان في حكمها الأول، علاقة متينة مع باكستان، لكن
هذا التقارب جلب أيضا انتقادات شديدة من القوميين البشتون والتيارات اليسارية،
التي اتهمت الحركات الإسلامية بأنها أدوات بيد باكستان والولايات المتحدة، مستندة
في ذلك إلى طبيعة الدعم السياسي والعسكري الذي تلقته هذه الفصائل.
وفي تلك المرحلة،
شهدت العلاقات الباكستانية الأفغانية تحسنا ملحوظا، إذ جرى تجاهل الخلافات
الحدودية مؤقتا، غير أن عودة الحكم القومي المتمثل في نظامي حامد كرزاي وأشرف غني
أعادت النزاعات الحدودية إلى الواجهة من جديد.
كان الأفغان
يشعرون بأن باكستان تمارس دور "الأخ الأكبر" وتفرض عليهم ضغوطا غير
مبررة، خصوصا في ما يتعلق بحركة الأفراد والبضائع عبر الحدود، وبما أن أفغانستان
دولة حبيسة لا تطل على البحر، فإنها تعتمد اعتمادا كبيرا على ميناء كراتشي الباكستاني
لاستيراد معظم احتياجاتها الأساسية من الخارج.
وعندما اتخذ
برويز مشرف موقفا معاديا لحركة طالبان، تحوّل عمليا من حليف الأمس إلى خصم، ما دفع
طالبان إلى التقارب مع إيران رغم الخلاف الأيديولوجي العميق بين الطرفين، فالحركة
ذات توجه سني متشدد، بينما يقوم النظام الإيراني على المذهب الشيعي.
وشهدت العلاقة
بين الجانبين مواجهات دامية، أبرزها حادثة اقتحام القنصلية الإيرانية في مزار شريف
التي قُتل فيها عدد من الدبلوماسيين الإيرانيين أو عناصر يُعتقد أنهم من
المخابرات، ما تسبب في توتر شديد بين طهران وطالبان، غير أن العلاقات تحسنت لاحقا
حين تدهورت علاقة طالبان مع باكستان.
بعد الاحتلال
الأمريكي لأفغانستان، انقلبت علاقة حركة طالبان أفغانستان مع الباكستانيين رأسا
على عقب، فبعد أن كانت العلاقة بين الجانبين إيجابية في البداية، تدهورت لاحقا
بسبب تعاون إسلام آباد مع واشنطن وتسهيلها للغزو الأمريكي، ما دفع طالبان إلى
اتخاذ موقف حاد منها، واقتربت مواقفها تدريجيا من حركة طالبان باكستان.
هذا التحول صبّ
في مصلحة الاستراتيجية الهندية، إذ لطالما سعت نيودلهي إلى توطيد علاقاتها مع
كابول منذ عهد محمد داود خان مرورا بالفترة الشيوعية، حيث تطورت العلاقات بين
الهند وأفغانستان بشكل لافت.
والهدف الهندي
كان واضحا وهو تطويق باكستان بين قوتين معاديتين؛ أفغانستان من الغرب والهند من
الشرق، ردا على ما تعتبره نيودلهي "الكمّاشة الباكستانية" المتمثلة في
تطويق الهند من الصين شرقا وباكستان غربا.
وعملت
الاستخبارات والحكومة الهندية على تعزيز وجودهما داخل أفغانستان، خاصة خلال فترات
الحكم الشيوعي ثم في عهد حامد كرزاي وأشرف غني، عبر مشاريع تنموية واقتصادية
وبعثات فنية وتعليمية، بل وحتى عبر نفوذ سياسي وأمني غير معلن.
وعندما عادت
طالبان إلى الحكم مجددا، كانت الهند قد رسخت وجودها في البلاد من خلال تلك
المشاريع والشراكات، في وقت لم تكن أي دولة تقريبا تعترف بالحكومة الجديدة في
كابول.
ومع توتر العلاقة
بين طالبان وباكستان، فإن الحركة في نسختها الثانية اختارت الانفتاح على الهند
والتعاون معها، الأمر الذي أثار مخاوف إسلام آباد من فقدان نفوذها التاريخي في
الجار الغربي.
وردّت باكستان
على ذلك بفرض قيود وضغوط على خطوط الإمداد الأفغانية، خصوصا عبر معبري شمن وجلال
آباد وصولا إلى كراتشي، فشددت على مرور الشاحنات التجارية، وضيّقت على حركة
الأفراد، ما أدى إلى موجة غضب واسعة في الشارع الأفغاني وبين قيادات طالبان على حد
سواء.
نتيجة لذلك،
تراجعت شعبية باكستان داخل أفغانستان إلى أدنى مستوياتها، إذ يرى كثير من الأفغان -وخصوصا
البشتون- أن باكستان تحتل جزءا من أرضهم التاريخية المعروفة باسم بشتونستان، أي
المنطقة الغربية التي اقتُطعت لصالح باكستان بعد ترسيم الحدود.
بلغت الأمور مستوى خطيرا من التوتر، ورغم أن احتمال اندلاع حرب مفتوحة لا يبدو وشيكا، فإن استمرار هذه المواجهات يخدم مصالح الهند بالدرجة الأولى، بوصفها المستفيد الأكبر من أي صدام بين كابول وإسلام آباد
لذلك، فإن
المواجهات الحدودية بين الجانبين ليست أمرا طارئا، بل تتكرر بين حين وآخر، وتعبّر
عن تراكمات تاريخية وثقافية معقدة، وغالبا ما تبقى هذه الاشتباكات محدودة لا تتطور
إلى حرب شاملة، لكنها تكشف عمق الأزمة المستمرة بين البلدين.
وقد تفاقم التوتر
مؤخرا مع إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب رغبته في إعادة السيطرة على
قاعدة باغرام الجوية، وهو ما أثار حساسية الأفغان تجاه العلاقة الباكستانية
الأمريكية، خاصة في ظل اللقاءات المتكررة التي جمعت قائد الجيش الباكستاني الجنرال
عاصم منير ورئيس الوزراء شهباز شريف مع مسؤولين في واشنطن، ما فُسّر في كابول على
أنه تواطؤ ضدها. ويخشى الأفغان اليوم أن يأتي أي عدوان أمريكي جديد على بلادهم من
الأراضي الباكستانية، ما يجعل انعدام الثقة بين الطرفين يتجذر أكثر فأكثر.
لقد بلغت الأمور
مستوى خطيرا من التوتر، ورغم أن احتمال اندلاع حرب مفتوحة لا يبدو وشيكا، فإن
استمرار هذه المواجهات يخدم مصالح الهند بالدرجة الأولى، بوصفها المستفيد الأكبر
من أي صدام بين كابول وإسلام آباد.
أما بالنسبة إلى
إيران، فإنها تحرص على الحفاظ على علاقات متينة مع أفغانستان لاعتبارات جغرافية
واقتصادية وأمنية، إذ تتشارك الدولتان حدودا طويلة، وتعتمد طهران جزئيا على المياه
القادمة من الأراضي الأفغانية.
مع ذلك، لا تبدو
إيران راغبة في أي مواجهة عسكرية مفتوحة بين أفغانستان وباكستان، بل تسعى إلى
ترسيخ قدر من الاستقرار الإقليمي يحول دون تفجر الأوضاع في جوارها الشرقي.
وفي الوقت ذاته،
تعمل طهران على عرقلة أي نفوذ أمريكي جديد في أفغانستان، عبر توطيد علاقاتها مع
حكومة طالبان ومحاولة استثمار التناقضات الإقليمية لصالحها، لكنها لا ترغب في أن
تتحول المنطقة إلى ساحة صراع مباشر يهدد أمنها أو مصالحها الاقتصادية.
وهكذا، تظلّ
الأزمة بين كابول وإسلام آباد متجددة، تنطفئ حينا لتشتعل حينا آخر، بينما تحاول
القوى الإقليمية والدولية توظيفها لخدمة حساباتها الخاصة، في مشهد يعكس هشاشة
التوازنات السياسية والأمنية في جنوب آسيا.