أفكَار

اللغة العربية بين نبوءة الزوال ووعد الخلود.. تفكيك مغالطة الرهان على موت لسان القرآن

توحد اللهجات العربية في اللغة المشتركة الواحدة أقرب إلى التحقق من استقلالها عن الفصحى لتصبح لغات عامة قائمة بذاتها..
توحد اللهجات العربية في اللغة المشتركة الواحدة أقرب إلى التحقق من استقلالها عن الفصحى لتصبح لغات عامة قائمة بذاتها..
في سياق السلسلة الفكرية التي يخصّ بها الباحث والمفكر الجزائري الدكتور أحمد بن نعمان صحيفة عربي21، يواصل الكاتب تفكيك بعض المغالطات الفكرية التي تستهدف مكونات الهوية العربية ـ الإسلامية، وفي مقدمتها اللغة العربية، بوصفها الوعاء الأعمق لحضارتنا والركن الثاني بعد نعمة الإسلام في بناء الشخصية الحضارية للأمة.

يأتي هذا المقال ضمن مشروع علمي وفكري موسّع يروم تحرير الوعي اللغوي والتاريخي من الخطابات التغريبية التي تسعى، منذ قرنين على الأقل، إلى إقناع العرب والمسلمين بأن لغتهم في طريق الزوال، وأنها ستلقى المصير نفسه الذي آلت إليه اللاتينية. هذا الرهان القديم ـ الجديد، الذي يجد جذوره في الصراع الحضاري بين الشرق والغرب، يُستعاد اليوم بصيغ أكاديمية وإعلامية حديثة، في إطار ما يمكن وصفه بـ"الحرب الناعمة على اللغة والهوية".

وفي هذا السياق، يفنّد الدكتور أحمد بن نعمان، بعمق الباحث واستقراء المؤرخ، أسطورة "موت اللغة العربية" من خلال قراءة تاريخية ـ لسانية تُبرز أن مسار اللغات لا تحكمه حتمية الانقراض، بل قد تسير عكس ذلك نحو التوحّد والانتشار متى توفرت لها مقومات القوة الحضارية والدينية والثقافية.

فاللغة العربية، بما تحمله من قداسة نصٍّ ووحدة خطابٍ ومرجعيةٍ حضارية، لم تكن يومًا مجرد أداة تواصل، بل كيانًا حيًا نابضًا بذاكرة الأمة وضميرها، ومن ثمّ فإن المراهنة على زوالها ليست سوى رهانٍ خاسرٍ معرفيًا وتاريخيًا قبل أن يكون لغويًا.


رهان قديم

يدعي بعض الأعداء الحضاريين الغربيين  و"المستغربين" بأن اللغة العربية الآن في حالة احتضار وأن مآلها الزوال، أو زوايا بعض المساجد مثل مصير اللاتينية المنزوية في دولة الفاتيكان وبعض الكنائس في المدن الصغرى والكاتيدرائيات في العواصم والمدن الغربية الكبرى.

والحقيقة أن هذا التفاؤل بالزوال قديم لدى الأعداء في بلادهم وجديد لدى "الأبناء" في بلادنا، وهو يدخل في إطار الصراع الحضاري والحرب النفسية التدميرية والتخذيلية  لبعض النفوس الضعيفة في العقول الخفيفة، حيث يهدف أعداء وحدة الأمة والوطن على اختلاف نزعاتهم ونزواتهم  الاديولوجية إلى تقويض   ركن  أساسي  في هويتنا وحضارتنا  بعد نعمة  الإسلام الحنيف. وهذا الركن  العتيد  يتمثل في اللغة العربية (لسان القرآن) الرسول الحي القائم والدائم وذلك بترديدهم أن اللغات كالكائنات الحية تولد وتشب  وتكتهل، وتشيخ  وتموت لترثها لغات أخرى تولد  بحكم الظروف المستجدة، ودوران عجلة التاريخ التي لا ترجع إلى الوراء، والأمثلة التي يذكرونها لأتباعهم من الرهط الضال والمغضوب عليه في الأمة ممن يأكلون الغلة ويسبون الملة أو يتمتعون بأوراق الجنسية ويتنكرون بثوابت الهوية!؟  ورهانهم هنا يتمثل في أن العربية مثل هذه  اللغات التي عاشت وأنجبت ثم ماتت واندثرت لترثها لغات أخرى تشبهها في الجذور  وتختلف عنها في الفروع والقشور، هي  كثيرة في التاريخ القديم والحديث..

ويمكن أن نذكر العشرات منها في المنطقة العربية وحدها بشقها الإفريقي والآسيوي.. ولكننا سنضرب صفحا عن ذكرها لنشرع مباشرة في الرد على هذه الأطروحة المضللة فنقول: إنه كما وجدت بالفعل العوامل التاريخية التي أدت في الأصل إلى تفرع اللغات وتناسل بعضها من بعض وقد يطغى بعض الخلف على السلف وينسخه نسخا كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية بالنسبة للرومانية (أو اللاتينية) التي كانت لغة أوروبا كلها كنيسة وإدارة وحضارة ولم تعد الآن شيئا مذكورا!!؟؟ وتتواصل السلسلة كأمواج البحر من بداية التاريخ المكتوب إلى يوم الناس هذا!؟ ولكن توجد في الوقت ذاته عوامل أخرى ظهرت بشكل آخر تمثل الوجه الآخر للظاهرة اللغوية في الاتجاه المعاكس وهو اتجاه  التوحد والتجمع بدل التشتت والتفتت والاندثار والزوال الكامل لتصبح أثرا بعد عين ولا تعوزنا الأمثلة الكثيرة من الماضي البعيد والحاضر القريب!؟ 

العوامل التاريخية واللغوية في بقاء العربية

هذه العوامل المجتمعة التي تساعد على التوحيد اللغوي، وتؤدي إلى ظهور اللغات العامة من جديد.. هي عوامل تختلف من مجتمع إلى آخر بحسب الظروف، وقد تكون هذه العوامل سياسية أو اقتصادية  أو قومية أو أدبية أو دينية أو استعمارية (إبادية) واستحلالية مثل الهنود الحمر في القارة الأمريكية (الجنوبية والشمالية)، وسنحاول أن نوجز أهم هذه  العوامل دون أن يعني ذلك أن جميعها يجب أن يتوفر في أية لغة كي تنتشر وتصبح عامة وبالتالي تبتلع اللغات الضعيفة التي تعترض طريقها.. ولكن يكفي أن يوجد بعضها فقط ليقوم بالمهمة إذا ساندته ظروف وعوامل نختصر أهمها فيما يلي:

العامل الأول ـ الاتصال والاختلاط بين أقوام مختلفي اللغات أو اللهجات، فيحدث تبادل تأثير بين الأطراف وتكون الغلبة للغة القوية فتبتلع اللغة الضعيفة، أو يحدث أن تتعادل اللغتان في القوة فينتج عن احتكاكهما الطويل والمتواصل ظهور لغة جديدة مركبة من خليط من اللغتين.. مثل اللهجة العامية لسكان المدن الساحلية الجزائرية، التي وقع الاحتكاك الطويل فيها بين اللغة الفرنسية واللغة العربية مما تولدت عنه لهجة مزيجة بخليط من الألفاظ الفرنسية والإيطالية والتركية والإسبانية مزجا غريبا مثل اللغة المالطية في الوقت الحاضر !!

العوامل المجتمعة التي تساعد على التوحيد اللغوي، وتؤدي إلى ظهور اللغات العامة من جديد.. هي عوامل تختلف من مجتمع إلى آخر بحسب الظروف، وقد تكون هذه العوامل سياسية أو اقتصادية أو قومية أو أدبية أو دينية أو استعمارية (إبادية) واستحلالية مثل الهنود الحمر في القارة الأمريكية (الجنوبية والشمالية)
ولو طاوعت الدولة الجزائرية دعاة تفصيح العامية الجزائرية لتصبح لغة كتابة وقراءة مثل اللهجات الأوروبية السبعة المذكورة المعتمدة اليوم في كل من باريس وروما ولشبونة ومدريد وبودابيست التي كانت كلها لهجات متفرعة عن اللغة اللاتينية التي سادت في كل أوروبا الغربية لعدة قرون كلغة الدين والدنيا (أو العادة والعبادة) في التعليم والإدارة والكنيسة  لعدة  قرون وكادت أن تزول من الاستعمال الآن  إلا في بعض الكنائس كما قلنا ولو تم ذلك بالفعل لوجد العرب أنفسهم أمام لغة لا يفهمها لا العربي ولا الفرنسي ولا الإسباني ولا الإيطالي ولا التركي وهي أقرب إلى اللغة المالطية منه إلى اللغة العربية  العدنانية (القرآنية) الفصحى التي يتعامل بها نصف مليار عربي فضلا عن المسلمين الذين يتعبدون بها وحدها طوال حياتهم في كل أنحاء المعمورة من غانة إلى فرغانة!!؟

العامل الثاني ـ انتشار عقيدة دينية معينة، وما تحمله هذه العقيدة من لغة تنتشر بكيفية تلقائية في أوساط المؤمنين بتعاليم الدين الجديد ويختلف انتشارها قوة وضعفا وسرعة وبطئًا، باختلاف المقاومة التي تبديها اللغة المحلية في وجه اللغة الدينية الجديدة، وأبرز مثال لهذه الحالة: انتشار اللغة العربية مع انتشار الإسلام، واحتواؤها للغات المحلية في الأقطار العربية الحالية.. إلى أن أصبحت اللغة العربية اللسان الوطني والقومي لنصف  مليار عربي ناطق بها (فصحى للمتعلمين أو عامية للأميين) وهي تقع في المرتبة الرابعة عالميا بعد الصينية والإنجليزية والإسبانية!؟ ضمن مليارين من المسلمين الذين يتعاملون بدرجات متفاوتة بها في مساجد العالم الإسلامي على مستوى الأئمة على الأقل (...) بعد أن كانت هذه اللغة جامدة في شبه الجزيرة العربية لعدة قرون قبل ظهور الإسلام الذي نشرها وقواها وحافظ عليها، مثلما نزلت بألفاظها الحالية من اللوح المحفوظ واحتفظت بنصها الثابت والمقدس إلى يوم الدين!!

العامل الثالث ـ الهيمنة السياسية، وما تفرضه من لغة مشتركة بحد السيف على كل من يقع تحت سلطانها، والأمثلة الحية في عالمنا المعاصر تتمثل في محاولة فرنسة بعض أقطار المغرب العربي الواقعة تحت الاحتلال الفرنسي من ناحية هيمنة اللغة الفرنسية في التعليم والإدارة والحياة العامة حتى الآن ويكفي دليلا على ذلك أن معظم هذه البلاد العربية هي عضو عامل في المنظمة العالمية للدول الفرانكوفونية (أي الناطقة بالفرنسية) وعدد سكان هذه البلاد يعادل خمسة أضعاف  سكان فرنسا الحالية ذاتها!!  وما جرى في جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقا من فرض للغة الروسية على جميع الرعايا بالجنسية والهوية معا  أو بإحداهما على الأقل!؟... وما تم كذلك في الولايات المتحدة الأمريكية من نشر للغة الإنجليزية وفرضها على  الولايات التي دخلت في الاتحاد فرضا ومنهم الملايين من الهنود الحمر والأفارقة والأوروبيين من كل الألوان والأصول القارية!؟

العامل الرابع ـ الآداب والفنون من سينما ومسرح، ووسائل الإعلام من إذاعة وتلفزيون وصحافة مكتوبة. فكل هذه الوسائل توحد اللغة لدى أفراد المجتمع وتعمل من أجل القضاء على الفوارق الموجودة في اللهجات المحلية لتوحدها في لهجة واحدة أو لغة واحدة، ولقد ساعد على ذلك في عصرنا الحاضر ظهور المدن الكبيرة التي تضم الملايين من البشر الذين تؤدي معيشتهم الجماعية إلى تكوين لغة مشتركة تؤثر عموما في لهجات النواحي الأخرى من البلاد على اعتبار أن الحواضر ظلت دائما مراكز جذب للسكان من أقاليم متباعدة في الأرياف كما ذهب إلى ذلك ابن خلدون فضلا عمن يؤمها مؤقتا من سكان الضواحي لقضاء مصالحهم..

وينتج عن اختلاط هؤلاء المهاجرين بعضهم ببعض، وعن اختلاطهم بالسكان المستقرين.. أن تصقل لغة الجميع وينتهي الأمر إلى تكوين لغة عامة قد تتغير اللهجات من جراء التجمع السكاني الذي يجعل هذه اللهجات تنصهر لتعطي لغة عامة توافق كل السكان في المدينة الواحدة، ثم تتعدى بدورها إلى سكان البلاد كلها، وفي هذا المعنى يقول عالم اللغة (ستيوارت ضود): "نعرف جيدا أن الشعب الذي ينطق بلغة واحدة، إذا ما فصلته حواجز كالبحار والصحاري، وسلاسل الجبال أو غيرها، واستمر هذا الفصل قرونا تنقسم لغته إلى لهجات مختلفة، قد تكون كتابتهم واحدة، ولكن التلفظ يكون مختلفا، بيد أن هذه اللهجات قد تمتزج، وتكون لغة واحدة مرة ثانية إذا ما تم الاتصال بين الأقطار التي تسود فيها، وبالفعل، فإننا نجد اليوم أن لهجات إنجلترا آخذة في الزوال كما أن الراديو يعد قوة جديدة وفعالة في توحيد اللهجات.. 

والخلاصة أنه كلما ازداد الاتصال بين أجزاء العالم بواسطة وسائل المواصلات الحديثة، كالسفر والراديو والسينما والتلفزيون توقعنا أن تزول اللهجات، وتتوحد اللغات تدريجيا.

شواهد تاريخية على وحدة اللغات

ونجد لكلام هذا العالم اللغوي عن عوامل التوحد اللغوي سندا قويا من تاريخ اللغات قديما وحديثا، ومن ذلك مثلا ـ انتشار اللهجة المصرية (نتيجة المسلسلات التلفزيونية في معظم أقطار الوطن العربي في الوقت الحاضر.

فاللغة الإغريقية كانت في الأساس: هي اللهجة الأتيكية التي ظلت حتى القرن الخامس الميلادي لغة محلية لإقليم منعزل، ثم تطورت بعد قيام الإمبراطورية المقدونية لتطغى على باقي اللهجات المحلية، وتصبح أداة التفكير واللغة المشتركة لجميع الإغريقيين الذين كانوا من قبل توحدهم يتكلمون لهجات مختلفة ... اللغة الفرنسية الحالية ذاتها هي في الأصل تطوير للهجة (الإيل دي فرانس) ويعود هذا التطوير إلى أهمية العاصمة الباريسية" السياسية والاقتصادية والحضارية.

اللغة الإسبانية: خرجت من اللهجة القشتالية التي أصبحت اللغة الأدبية في القرن الثالث عشر بفضل الفونس العاشر الذي كان يحتل بالنسبة إلى إسبانيا مركز (دانتي) بالنسبة لإيطاليا، فضلا عن المركز السياسي والحضاري المؤثر الذي كانت تحتله قشتالة في ذلك الوقت.

اللغة الإنجليزية هي الأخرى ظهرت في لندن التي كانت ملتقى المختلف اللهجات، وقد لعبت العاصمة دور الموحد لتلك اللهجات لتصبح لغة واحدة في العصر الحاضر.

اللغة الألمانية: هي عبارة عن توحد لعدد كبير من اللهجات المحلية التي أخذت تزول شيئا فشيئا مع إنتشار اللغة الألمانية المشتركة، ويعود الفضل الكبير في ذلك للمصلح ( مارتن لوثر) الذي دعا الى هذا التوحيد وساعد على تحقيقه بترجمة الأناجيل الى اللغة الألمانية  .

اللغة الروسية: هي تطور توحيدي للهجات السلافية الجنوبية وقد تم هذا التوحد بشكله الأكمل في عهد بطرس الأكبر الذي فعل ما يشبه عمل (مارتن لوثر) بالنسبة للغة الألمانية  .

فبهذه الأمثلة التاريخية الحية والشواهد الدقيقة يتبين لنا أن اللغات لا تسير نحو الانقسام في حتمية مطلقة، وإنما تتجه أيضا نحو التوحد إذا توفرت لها أسباب وظروف خاصة، ونعتقد أن هذه الظروف والإمكانيات المساعدة على التوحد هي في عصرنا الحاضر أوفر منه في العصور الماضية، مما يبعث على الارتياح  لأن توحد اللهجات العربية في اللغة المشتركة الواحدة أقرب إلى التحقق من استقلالها عن الفصحى لتصبح لغات عامة قائمة بذاتها، كما يذهب المعارضون والمغرضون والمخططون لهذا الهدف الاستعماري الجديد في البلاد العربية مشرقا ومغربا!!؟
التعليقات (0)

خبر عاجل