قضايا وآراء

الضفة بعد غزة: هل تُعاد صياغة الجغرافيا السياسية الفلسطينية؟

رائد أبو بدوية
"حلقة في مسار متدرّج من الضمّ الزاحف" في الضفة- جيتي
"حلقة في مسار متدرّج من الضمّ الزاحف" في الضفة- جيتي
منذ بداية الحديث عن "ترتيبات اليوم التالي" للحرب على غزة، تحوّل النظر تدريجيا نحو الضفة الغربية، بوصفها الجبهة التالية في مشروع إعادة تشكيل المشهد الفلسطيني. فبينما تنشغل الأطراف الدولية بخطط إعادة إعمار القطاع، يجري على الأرض في الضفة ما يبدو أنه إعادة هندسة أمنية وسياسية تمهّد لواقع جديد.

الضمّ الزاحف بلا إعلان

مصادقة الكنيست الإسرائيلي مؤخرا على مشروع قانون لضمّ أجزاء من الضفة وفرض السيادة على مستوطنة معاليه أدوميم ليست حدثا معزولا، بل حلقة في مسار متدرّج من "الضمّ الزاحف". فإسرائيل تدرك أن لحظة ما بعد غزة هي فرصة ذهبية لتكريس وقائع جديدة في الضفة، مستفيدة من انشغال العالم بالقطاع ومن ضعف الموقف الفلسطيني الرسمي. فالجيش الإسرائيلي أعلن بالتزامن عن نشر كتائب نظامية إضافية في الضفة "بدلا من قوات الاحتياط"، في إشارة إلى نية ترسيخ الوجود العسكري الدائم وتوسيع الحماية للمستوطنات.
الحديث عن "سلطة فلسطينية مُجددة" و"إصلاحات" لا يُفهم إلا في سياق ضمان السيطرة على الضفة، ومنع تمدد أي نموذج مقاوم قد يخرج من غزة
تصريحات رئيس الأركان إيال زامير بأن "الحرب لم تنته بعد، والتحديات الكبرى في الضفة" تكشف بوضوح أن جبهة غزة لا تُفصل عن جبهة الضفة، بل تُدار ضمن رؤية أمنية موحّدة.

"اليوم التالي".. بأجندة أمنية

في الخطاب الدولي، يتكرّر مصطلح "اليوم التالي لغزة" بوصفه إطارا إنسانيا وسياسيا لإعادة الإعمار، لكن خلف اللغة الناعمة تختبئ أجندة أمنية تسعى لضبط الفلسطينيين لا لتمكينهم. فالحديث عن "سلطة فلسطينية مُجددة" و"إصلاحات" لا يُفهم إلا في سياق ضمان السيطرة على الضفة، ومنع تمدد أي نموذج مقاوم قد يخرج من غزة. فالولايات المتحدة وبعض الدول العربية تتحرك ضمن مقاربة "الترتيب بدل التفاوض"، أي فرض أمر واقع إداري وأمني يُمكّن السلطة الفلسطينية من أداء دور وظيفي، دون منحها سيادة حقيقية. وهكذا يتحوّل مشروع "إعادة الإعمار" إلى أداة سياسية لترويض الكيان الفلسطيني وإعادة إنتاجه.

الضفة في مرمى الهندسة الجديدة

التحولات الميدانية في الضفة تسير بخطى متسارعة: توسع استيطاني غير مسبوق، ومصادرة أراضٍ، وإنشاء شوارع التفافية تقطع التواصل الجغرافي بين شمال الضفة وجنوبها. كل ذلك يجري بينما يضعف الحضور السياسي الفلسطيني، وتنشغل القيادة في رام الله بالردّ الدبلوماسي دون امتلاك أدوات فعل ميداني.
نجاح إسرائيل في فرض ترتيباتها الأمنية في القطاع سيعني عمليا نهاية فكرة الدولة الفلسطينية الواحدة، وتكريس نموذج "الإدارة المحلية" بدل السيادة الوطنية
إن ما يجري ليس مجرد "ضبط أمني"، بل تحويل تدريجي للضفة إلى مناطق إدارية متناثرة تُدار عبر ترتيبات أمنية مزدوجة؛ إسرائيلية- فلسطينية، وربما عربية، في بعض المناطق الحساسة مثل أريحا أو شمال الخليل.

وهْم الفصل بين غزة والضفة

تسعى إسرائيل إلى تكريس "وهم غزة"، أي جعل القطاع بؤرة الانتباه الدائمة، بحيث تغيب الضفة عن الرادار السياسي والإعلامي. غير أن هذا الفصل غير واقعي، لأن مصير غزة والضفة مترابط وجوديا: فنجاح إسرائيل في فرض ترتيباتها الأمنية في القطاع سيعني عمليا نهاية فكرة الدولة الفلسطينية الواحدة، وتكريس نموذج "الإدارة المحلية" بدل السيادة الوطنية.

خاتمة: ما بعد الحرب ليس سلاما

الضفة الغربية اليوم تدخل مرحلة إعادة تعريف شاملة، لا بفعل اتفاق سياسي بل بفعل سياسة الأمر الواقع. وإذا لم ينبثق من الداخل الفلسطيني مشروع وطني جديد يربط بين غزة والضفة كجبهة واحدة، فإن "اليوم التالي" لن يكون سوى استمرار للحرب بوسائل أخرى؛ حرب على الأرض والهوية والذاكرة.
التعليقات (0)

خبر عاجل