قضايا وآراء

بين الدولة والإدارة: قراءة فلسطينية في خطة ترامب ومبادرة بلير

رائد أبو بدوية
"يتحول الكيان الفلسطيني إلى جهاز تنفيذي بلا دولة، يتولى المهام اليومية بينما تظل مفاتيح السيادة خارج يده"- الأناضول
"يتحول الكيان الفلسطيني إلى جهاز تنفيذي بلا دولة، يتولى المهام اليومية بينما تظل مفاتيح السيادة خارج يده"- الأناضول
تبدو "خطة ترامب ذات النقاط العشرين" و"مبادرة توني بلير لليوم التالي" وكأنهما وجهان لمقاربة واحدة: تحويل القضية الفلسطينية من مشروع تحرر وطني إلى ملف أمني- إداري يدار من الخارج، تحت لافتة "إعادة الإعمار" و"الاستقرار". في الظاهر، تتحدث الخطة الأمريكية عن "حل عملي" لما بعد الحرب في غزة، لكنها في جوهرها تسعى إلى تفكيك البنية السياسية الفلسطينية وإعادة تركيبها في إطار يخدم أمن إسرائيل ويُخرج الفلسطينيين من معادلة القرار.

والمفارقة أن خطة ترامب لا تنفي الوجود الفلسطيني، لكنها تعيد تعريفه: ليس كشعب يسعى إلى دولة ذات سيادة، بل كمجموعة تحتاج إلى إدارة محلية منزوعة القرار. فمن خلال توزيع الأدوار بين السلطة الفلسطينية ودول إقليمية "ضامنة"، تسعى الخطة إلى خلق نظام إدارة متعددة المستويات تكون فيه واشنطن وتل أبيب مركز القرار الحقيقي، فيما يُترك للفلسطينيين هامش من "التمثيل الإداري" دون مضمون سيادي. بهذا المعنى،
خطة ترامب لا تنفي الوجود الفلسطيني، لكنها تعيد تعريفه: ليس كشعب يسعى إلى دولة ذات سيادة، بل كمجموعة تحتاج إلى إدارة محلية منزوعة القرار
يتحول "الكيان الفلسطيني" إلى جهاز تنفيذي بلا دولة، يتولى المهام اليومية بينما تظل مفاتيح السيادة خارج يده. إنها صيغة جديدة لـ"السلام الاقتصادي" الذي جرى تسويقه سابقا تحت عنوان "الواقعية السياسية".

أما خطة توني بلير لـ"اليوم التالي"، فتقدّم نفسها كخطة فنية لإدارة الإعمار، لكنها لا تنفصل عن الرؤية الأمريكية الأوسع. بلير، الذي يملك خبرة في تحويل النزاعات إلى ملفات "حوكمة انتقالية"، يعيد هنا تطبيق النموذج نفسه: احتواء الصراع عبر المؤسسات لا عبر الحلول السياسية. إنها مقاربة تستبدل فكرة إنهاء الاحتلال بإدارة تبعاته، وتستبدل مفهوم الدولة بمفهوم "الحكم الرشيد تحت الاحتلال".

الرفض المجرد لم يعد كافيا

في ظل ميزان القوة القائم، يدرك الفلسطينيون أن الرفض المطلق لمثل هذه الخطط قد يؤدي إلى تهميشهم مرة أخرى. لكن القبول بها على حالها يعني شرعنة واقع الاحتلال وتفكيك النظام السياسي الفلسطيني من الداخل. لذلك، يبرز خيار ثالث أكثر واقعية: الانخراط المشروط والواعي، أي التعامل مع أي مبادرة انطلاقا من محددات وطنية واضحة، لا من موقع الخضوع. ويمكن أن يتحقق ذلك عبر حكومة تكنوقراط فلسطينية مستقلة في القرار، تدير شؤون غزة بإشراف وطني، وتعمل بالتنسيق مع الدول الإقليمية الصديقة مثل قطر ومصر والأردن وتركيا، دون أن تتحول إلى أداة تنفيذية للسياسات الأمريكية،
لا يمكن لأي خطة "بعد الحرب" أن تنجح إن لم ترتكز على مبدأ واضح: لا إعمار بلا سيادة، ولا استقرار بلا عدالة. فتحويل القضية الفلسطينية إلى ملف إنساني أو إداري هو الطريق الأسرع لإدامة الاحتلال، لا لإنهائه
خاصة أن المشهد الحالي يذكّر بتجربة مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، حين اشترطت إسرائيل غياب منظمة التحرير عن المفاوضات، لكنها كانت الطرف الحقيقي في الكواليس وصاحبة القرار النهائي. اليوم، يبدو أن التاريخ يعيد نفسه: كل محاولات تجاوز الفلسطينيين تنتهي بعودتهم إلى الطاولة، وإنْ من الباب الخلفي.

حماس والسلطة: أدوار تتقاطع رغم الانقسام

رغم كل الانقسامات، ما تزال لكل من حماس والسلطة الفلسطينية قدرة على التأثير. حماس، بقوتها الميدانية، ما زالت عنصرا لا يمكن تجاوزه، والسلطة، رغم ضعفها، تملك الشرعية الدولية. إن التقاء الطرفين عند صيغة توافقية لإدارة المرحلة المقبلة قد يشكل فرصة لإعادة توحيد القرار الفلسطيني، وإفشال محاولة "تفريغ" المشروع الوطني من مضمونه.

الخلاصة: لا إعمار بلا سيادة

في نهاية المطاف، لا يمكن لأي خطة "بعد الحرب" أن تنجح إن لم ترتكز على مبدأ واضح: لا إعمار بلا سيادة، ولا استقرار بلا عدالة. فتحويل القضية الفلسطينية إلى ملف إنساني أو إداري هو الطريق الأسرع لإدامة الاحتلال، لا لإنهائه. وبين الرفض المطلق والقبول المذعن، يبقى الخيار الفلسطيني الأذكى هو الانخراط بشروط تحفظ الجوهر الوطني وتمنع استبدال الدولة بالجهاز.
التعليقات (0)

خبر عاجل