قضايا وآراء

بين وعود السلام وواقع الإبادة: لماذا لا يثق الفلسطيني بترامب؟

عدنان حميدان
"كيف يمكن أن يُؤتمن مجلس يرأسه ترامب، وهو الذي منح إسرائيل الغطاء السياسي والدعم المالي والعسكري لجرائمها؟"- جيتي
"كيف يمكن أن يُؤتمن مجلس يرأسه ترامب، وهو الذي منح إسرائيل الغطاء السياسي والدعم المالي والعسكري لجرائمها؟"- جيتي
منذ عقود، اعتاد الفلسطيني أن يسمع الوعود من عواصم كبرى ومنظمات دولية وزعماء مؤثرين، لكن حصيلة هذه الوعود لم تكن سوى مزيد من الدماء والخذلان. واليوم، يعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ليطرح ما سماه "المجلس العالمي للسلام"، في وقت تُرتكب فيه إبادة جماعية ضد أهلنا في غزة. فكيف يمكن لمن شارك في دعم الاحتلال وحمايته أن يتحول فجأة إلى "راعٍ للسلام"؟ وكيف يُطلب من الفلسطيني أن يثق بوعد مصدره ترامب، بينما ذاكرة الوعود المنهارة ما زالت ماثلة أمامه من بيروت إلى أوسلو؟

في عام 1982 وافقت منظمة التحرير الفلسطينية على الخروج من بيروت بسلاحها، على أساس أن قوة دولية ستبقى في المدينة وتمنع دخول الجيش الإسرائيلي إليها. خرجت المنظمة، لكن القوة الدولية انسحبت سريعا، لتجد المخيمات الفلسطينية عزلاء في صبرا وشاتيلا نفسها أمام واحدة من أبشع المذابح في التاريخ الحديث. كان الأمر أشبه بمقايضة مأساوية: السلاح مقابل وعد، لكن الوعد انهار، وكانت النتيجة كارثية.

خطورة مبادرة ترامب لا تقف عند بعدها السياسي، بل تتجاوز ذلك إلى بعدها الأخلاقي. فهي محاولة لإعادة تغليف الاحتلال والحصار في قوالب قانونية واقتصادية جديدة؛ تقدم إسرائيل بمظهر المنتصر المتفضل، بينما يُختزل الفلسطيني إلى متلقٍّ لحقوق مشروطة، تُمنح أو تُحجب وفق معيار "حسن السلوك"

اليوم، تتكرر الصيغة ذاتها بثوب جديد، فقد أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن ما سماه "المجلس العالمي للسلام" تحت قيادته. جوهر الخطة يقوم على تدمير أنفاق غزة، وتجريدها من سلاحها، وإبعاد المقاومين عنها، مقابل وعود فضفاضة بالحماية والإعمار والتنمية. مرة أخرى، يُقدَّم العرض بعبارات تُجمِّل "السلام"، لكنه في الحقيقة ليس إلا مطلبا بالاستسلام.

والمفارقة أن هذا الطرح يأتي في لحظة يتعرض فيها أكثر من مليوني إنسان في غزة لإبادة جماعية مستمرة؛ أُبيدت عائلات بأكملها، سُويت أحياء بالأرض، وبات الأطفال بين مَن شُرّد ومَن دُفن تحت الركام. من الصعب أن ينسجم مشهد الدم والدمار هذا مع خطاب سياسي يتحدث عن مجالس جديدة ووعود دولية،فكل يوم يمرّ يضيف إلى قائمة الشهداء، وكل وعد يتجاهل هذه الحقيقة لا يزيد الفلسطينيين إلا شعورا بالخيانة.

خطورة مبادرة ترامب لا تقف عند بعدها السياسي، بل تتجاوز ذلك إلى بعدها الأخلاقي. فهي محاولة لإعادة تغليف الاحتلال والحصار في قوالب قانونية واقتصادية جديدة؛ تقدم إسرائيل بمظهر المنتصر المتفضل، بينما يُختزل الفلسطيني إلى متلقٍّ لحقوق مشروطة، تُمنح أو تُحجب وفق معيار "حسن السلوك". الحديث يدور عن التنمية والمساعدات، لكن لا أثر فيه للحرية أو العدالة أو السيادة؛ إعادة إعمار البيوت من دون معالجة أسباب تدميرها ليست سوى إهانة جديدة للضحايا.

لقد علّم التاريخ الفلسطينيين درسا قاسيا: أن الضمانات الدولية، حين لا تقوم على عدالة حقيقية، تبقى وعودا هشة وسريعة الانهيار. فكيف يمكن أن يُؤتمن مجلس يرأسه ترامب، وهو الذي منح إسرائيل الغطاء السياسي والدعم المالي والعسكري لجرائمها؟ الثقة بمثل هذا الدور الأمريكي ليست إلا تكرارا لدائرة الوعود الكاذبة، ومن عاش تجربة أوسلو، أو حضر مؤتمرات المانحين التي قدّمت المال بدل الحرية، يدرك أن الفلسطينيين طُلب منهم مرارا أن يبادلوا حقوقهم الأساسية بوعود لم تتحقق يوما.

الأولوية الآن ليست المجالس ولا المؤتمرات، بل وقف الإبادة فورا، ورفع الحصار، ومحاسبة مجرمي الحرب، وضمان الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني

ثم إن بنية "المجلس" نفسه تكشف الخلل: الفلسطيني ليس طرفا متساويا بل موضوعا تحت الوصاية، تُقاس تطلعاته بمقاييس يضعها الآخرون. هذا ليس خطاب سلام، بل خطاب سيطرة؛ فالسلام الحقيقي لا يقوم على تغييب المساءلة عن الجرائم، ولا على تجاهل الاحتلال والاستيطان، ولا على إنكار حق اللاجئين في العودة.

إن أهل غزة وحدهم هم أصحاب الحق في تحديد مستقبلهم، وأي مبادرة تتجاوز إرادتهم الحرة ليست خطة سلام، بل أداة جديدة لتثبيت الاحتلال وتبييض جرائمه. السلام الحقيقي يبدأ بالاعتراف بالإنسان الفلسطيني، وبإنهاء الحصار، وتفكيك منظومة القهر التي صنعت عقودا من التهجير والحرمان واليأس.

الأولوية الآن ليست المجالس ولا المؤتمرات، بل وقف الإبادة فورا، ورفع الحصار، ومحاسبة مجرمي الحرب، وضمان الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني: الحرية والكرامة وتقرير المصير، وما عدا ذلك ليس سوى فصل جديد من تاريخ الوعود المكسورة المكتوبة بدماء الفلسطينيين.

وعليه، لا يمكن لشعبٍ يدفن أبناءه كل يوم أن يعيش على وعود عابرة أو مجالس مسقطة من الخارج. الفلسطينيون لا ينتظرون من أحد أن يمنحهم حريتهم، فهم أصحاب الحق وأصحاب الكلمة الأخيرة، وكل ما عدا ذلك ليس إلا محاولة جديدة لتزييف التاريخ وتجميل وجه الاحتلال.
التعليقات (0)

خبر عاجل