لم تعد المشاهد أمام الفنادق والمراكز المجتمعية التي تستضيف طالبي اللجوء في
بريطانيا أمرا عابرا؛ لافتات تُرفع، وهتافات
تتصاعد، ونداءات عبر وسائل التواصل تدعو لمظاهرات أكبر في الأيام المقبلة. قد يخيّل للبعض أن هذا غضب شعبي حقيقي، لكن السؤال الذي يفرض
نفسه: هل نحن أمام احتجاج عفوي فعلا؟ أم أن هناك من يصنع هذا الغضب
ويوجهه، ويحوّله إلى وقود يُغذّي الخوف والكراهية؟
ما يلفت الانتباه أن هذه التحركات لم تتوقف، بل تتسع وتزداد تنظيما، بل إن منظّميها تلقّوا صفعة قوية في 29 آب/ أغسطس 2025، عندما كسبت الحكومة استئنافا قضائيا ضد قرار سابق يقضي بإخلاء أحد
الفنادق من
اللاجئين. الحكومة وصفت الحكم
بأنه "انتصار للمنطق"، لكن الجماعات المناهضة للجوء صعّدت فورا واتهمت القضاء بالانحياز. هذا التناوب بين ساحات المحاكم والشارع والفضاء الرقمي يكشف
أننا لا نتعامل مع ردود فعل غاضبة متفرقة، بل مع حركة سياسية واجتماعية مستمرة تُدار
باحترافية.
الأخطر أن بعض دوائر اليمين المتطرف تلتقي في خطابها مع أوساط صهيونية داعمة لإسرائيل؛ كلاهما يصوّر المسلم والفلسطيني على أنه تهديد وجودي. وهكذا، يصبح عداء اللاجئين جزءا من معركة أوسع، تتقاطع فيها المصالح المحلية مع صراعات أيديولوجية عالمية
أحداث ساوثبورت في صيف 2024 تُظهر كيف
تعمل هذه الآلة؛ جريمة طعن وقعت في حضانة، وسرعان ما انتشرت شائعة تقول إن
منفذها لاجئ، لم يكن هناك أي دليل، والشرطة نفت الرواية لاحقا، لكن بعد
أن أُحرقت فنادق وتعرضت مساجد للاعتداء. السيناريو بات واضحا: إشاعة تُطلق، وتُضخَّم على يد نشطاء
اليمين المتطرف، ثم تتحول إلى ذريعة للتحشيد
في الشارع. حركات مثل "Britain First" و"Homeland" وأسماء مثيرة للجدل كـتومي روبنسون؛ جعلت من هذا الأسلوب
قاعدة ذهبية.
الإعلام الشعبوي ساهم بدوره في إشعال النار. حادث فردي يرتبط بلاجئ يُعالج كأنه تهديد قومي، بينما حادث
مشابه يرتكبه بريطاني "أصيل" يمر مرور الكرام. أما على المستوى السياسي، فقد وفّر صعود حزب الإصلاح مظلة شرعية للخطاب المناهض
للهجرة. فاللاجئون والمهاجرون يُقدَّمون كسبب مباشر لكل أزمة: السكن، الصحة، المعيشة.. خطاب مبسّط، لكنه يجد صدى عند قطاعات مرهقة من الضغوط الاقتصادية.
في خلفية هذا المشهد، تتعالى نبرة الإسلاموفوبيا. اللاجئ المسلم يُرسم باستمرار كغريب عن "القيم البريطانية"، ما يجعله هدفا سهلا للتحريض. والأخطر أن بعض دوائر اليمين المتطرف تلتقي في خطابها مع
أوساط صهيونية داعمة لإسرائيل؛ كلاهما يصوّر المسلم والفلسطيني على أنه تهديد وجودي. وهكذا، يصبح عداء اللاجئين جزءا من معركة أوسع، تتقاطع فيها
المصالح المحلية مع صراعات أيديولوجية عالمية.
لكن وسط الضجيج، تُختزل حياة البشر في أرقام: كم فندق؟ كم طلب لجوء؟ كم حالة ترحيل؟ خلف هذه الأرقام قصص
إنسانية قاسية. شاب سوداني في التاسعة عشرة ترك أهله وراءه ليحلم بدراسة
الطب، ويجد نفسه اليوم محتجزا في فندق بشمال بريطانيا، ينتظر قرارا إداريا قد يرسم
مصيره كله. قصته ليست استثناء،
المفارقة أن بعض الأصوات المناهضة للاجئين لا تأتي فقط من اليمين المتطرف أو الإعلام الشعبوي، بل من مهاجرين استقروا في بريطانيا منذ سنوات طويلة. بعض هؤلاء حين يصعد إلى موقع مسؤولية يتبنى خطابا أكثر تشددا من خطاب اليمين نفسه
بل مثال متكرر لمئات وآلاف اللاجئين الذين
فرّوا من الحروب والقمع والفقر، في كثير من الأحيان من أوضاع ساهم الاستعمار البريطاني
ذاته في صنعها.
المفارقة أن بعض الأصوات المناهضة للاجئين لا تأتي فقط من اليمين المتطرف أو
الإعلام الشعبوي، بل من مهاجرين استقروا في بريطانيا منذ سنوات طويلة. بعض هؤلاء حين يصعد إلى موقع مسؤولية يتبنى خطابا أكثر تشددا
من خطاب اليمين نفسه، وكأنه يحاول قطع صلته بماضيه أو يثبت "ولاءه" عبر التنكّر للقادمين الجدد.
القضية إذن ليست مجرد جدل حول عدد الفنادق أو طول طوابير مراكز
الهجرة، إنها معركة على هوية بريطانيا نفسها: هل تظل أسيرة لماضيها الاستعماري ولخطاب الإقصاء والكراهية؟
أم تستخلص العبرة من تاريخها، وتبني مستقبلا أكثر عدلا يقوم على التنوع والكرامة الإنسانية؟
التجربة تقول إن الهجرة لم تضعف بريطانيا قط، بل كانت رافعة لقوتها. من أطباء "NHS" إلى الأكاديميين في الجامعات، ومن الرياضيين إلى الفنانين،
المهاجرون تركوا بصماتهم بوضوح في كل مجال. هذا التنوع لم يكن عبئا، بل مصدر إبداع وتجدّد.
اليوم، ما يحدث أمام الفنادق والمساجد ليس مجرد خلاف حول سياسات هجرة، بل امتحان
للمجتمع البريطاني كله، فإما أن ينحاز لخطاب الخوف والكراهية، وإما أن يتمسك بالقيم التي يتغنّى بها: العدالة، الكرامة، والإنسانية.