قضايا وآراء

لماذا السودان.. وما الذي يسعى له حميدتي وقواته؟

عدنان حميدان
"جاء الدعم الخارجي لحميدتي باعتباره الطرف القادر على تفكيك نفوذ الجيش وإعادة رسم خريطة السلطة في السودان"- من فيديو للدعم السريع
"جاء الدعم الخارجي لحميدتي باعتباره الطرف القادر على تفكيك نفوذ الجيش وإعادة رسم خريطة السلطة في السودان"- من فيديو للدعم السريع
يبدو أن السودان يُدفع اليوم نحو هاوية التقسيم والتفكك، عبر واحدة من أخطر الحروب التي تشهدها القارة الأفريقية في العقود الأخيرة؛ حربٌ لا تدور بين طرفين متكافئين في الشرعية، بل بين دولةٍ وجيشٍ وطني يحاول الحفاظ على وحدة البلاد، وبين مليشيا متمرّدة تتغذّى على الذهب والدعم الخارجي وأحلام الانفصال.

ورغم وضوح هذا المشهد، تصرّ بعض القوى الدولية على التعامل مع الصراع وكأنه نزاع سياسي بين "فرقاء متنافسين"، فتساوي بين جيش الدولة الذي نشأ من رحم السودان، وبين قوات الدعم السريع التي يقودها محمد حمدان دقلو، المعروف بـ"حميدتي"، والتي تكوّنت من خليطٍ قبَليٍّ (الجنجويد) ومقاتلين تشاديين ومرتزقة جُلبوا لخدمة مشروعٍ شخصي بعيدٍ عن مصلحة الوطن.

سقوط الفاشر يعني أن حميدتي بات يسيطر على عواصم ولايات دارفور كافة، وأن خطر التقسيم لم يعد مجرّد تخوّف، بل احتمال واقعي يهدّد السودان بأسره

منذ سنوات، صعد نجم حميدتي بسرعة لافتة، بعدما أحكم سيطرته على مناجم الذهب في دارفور، فكوّن ثروة طائلة مكّنته من بناء نفوذٍ موازٍ لمؤسسات الدولة. وقد استعان به الرئيس المخلوع عمر البشير لقمع التمرّد في دارفور، فارتُكبت فظائع بحق المدنيين ظلّ حميدتي يرفض تحمّل مسؤوليتها. لكنّ تحالفه مع النظام القديم لم يدم طويلا؛ إذ أصبح شريكا في الإطاحة بالبشير بالتعاون مع قائد الجيش الفريق عبد الفتاح البرهان وعدد من القوى المدنية والنقابية.

ومع أن البرهان نفسه حاول لاحقا فتح صفحة جديدة مع المجتمع الدولي، وسارع إلى خطوة التطبيع مع تل أبيب عام 2021، فإن تلك الخطوة لم تشفع له في نظر القوى المتدخلة التي لا تخفي عداءها التاريخي للجيش السوداني، بوصفه امتدادا للمؤسسة الوطنية التي حكمت السودان بعد الاستقلال، ولارتباطه بمرحلة حكم الإسلاميين. ومن هنا جاء الدعم الخارجي لحميدتي باعتباره الطرف القادر على تفكيك نفوذ الجيش وإعادة رسم خريطة السلطة في السودان.

ومع اندلاع المواجهات في 15 نيسان/ أبريل 2023، تحوّلت البلاد إلى ساحة حرب مدمّرة. قوات حميدتي واصلت تمددها في الغرب السوداني، وسعت إلى إقامة كيانٍ مستقلّ على غرار تجربة جنوب السودان السابقة. وكانت مدينة الفاشر، عاصمة شمال دارفور، هدفا مركزيا له؛ فبعد عامٍ ونصف من الحصار،
الصمت على ما يجري في السودان خيانةٌ أخلاقية قبل أن تكون سياسية. الواجب اليوم أن نواصل الحديث عن السودان، وأن نفضح المتآمرين عليه من الداخل والخارج، وأن نرفض بوضوح كل المساعي الانفصالية التي تهدّد وحدته ومستقبله
اقتحمت قواته المدينة وارتكبت فيها فظائع مروّعة، ذكّرت بمجازر رواندا والبوسنة وسوريا والإبادة في غزة. سقوط الفاشر يعني أن حميدتي بات يسيطر على عواصم ولايات دارفور كافة، وأن خطر التقسيم لم يعد مجرّد تخوّف، بل احتمال واقعي يهدّد السودان بأسره.

ورغم هذه الحقائق، لا تزال بعض الدول والمنظمات الدولية تتحدث ببرود عن "التهدئة" و"وقف الأعمال العدائية"، دون الإشارة بوضوح إلى الطرف الذي بدأ التمرّد أو يتحمّل المسؤولية عن الجرائم والانتهاكات. هذه اللغة الرمادية لا تخدم السلام، بل تُكرّس الأمر الواقع وتُشرعن الانفصال الزاحف باسم "الوساطة" و"التوازن".

إنّ السودان اليوم بحاجة إلى موقف إنساني واضح يرفض العبث بوحدته، ويؤكد دعمه لمؤسسات الدولة الوطنية، وفي مقدمتها الجيش -رغم التحفظات على بعض الممارسات- بوصفه الضمانة الأخيرة لبقاء السودان موحدا. كما يجب التذكير بتاريخ هذا البلد في رفض التبعية والتطبيع، وبما يمتلكه من ثروات طبيعية هائلة جعلته مطمعا لأطرافٍ داخلية وخارجية، لا ترى في السودان وطنا بل غنيمة.

إنّ الصمت على ما يجري في السودان خيانةٌ أخلاقية قبل أن تكون سياسية. الواجب اليوم أن نواصل الحديث عن السودان، وأن نفضح المتآمرين عليه من الداخل والخارج، وأن نرفض بوضوح كل المساعي الانفصالية التي تهدّد وحدته ومستقبله. فالسودان ليس حميدتي ولا البرهان، بل هو شعب أبيّ وتاريخ طويل من النضال والكرامة، لا يجوز أن يُمحى تحت ركام الحرب والذهب المسروق.
التعليقات (0)

خبر عاجل