قضايا وآراء

الرباعية.. من المفاوض؟ وعلى ماذا التفاوض؟

شعراوي محمد
الحرب في السودان لم تعد صراعاً بين جيش ومليشيا فقط، بل بين مشاريع نفوذ إقليمية ودولية تتقاطع فيها مصالح الخارج فوق جراح الداخل.. الأناضول
الحرب في السودان لم تعد صراعاً بين جيش ومليشيا فقط، بل بين مشاريع نفوذ إقليمية ودولية تتقاطع فيها مصالح الخارج فوق جراح الداخل.. الأناضول
منذ فجر الخامس عشر من أبريل 2023، ظل السودانيون يترقبون نهاية لحربٍ بدأت فجأة، ولم تُبقِ من ملامح الدولة إلا أطلالها. كانوا يأملون أن يعود العقل إلى الميدان، وأن تتوقف آلة الحرب التي حصدت الأرواح وشتّتت الملايين، غير أنّ ما حدث هو العكس تماماً: صراع تمدد بلا توقف، وهدن إنسانية لم تكتمل، وبلاد تُستنزف كل يوم.

اليوم، وبعد مرور أكثر من عامين ونصف، يعود الحديث عن مفاوضات جديدة برعاية "الرباعية" التي تضم الولايات المتحدة والسعودية ومصر والإمارات. غير أن السؤال الذي يتردد في أذهان السودانيين جميعاً: من المفاوض؟ وعلى ماذا التفاوض؟

الولايات المتحدة، التي تُمسك بخيوط اللعبة الدولية، تنظر إلى السودان بعين المصالح لا المبادئ. فهي ترى في شرق البلاد بوابة استراتيجية تتقاطع عندها مصالحها مع النفوذ الروسي، لذلك لا تريد ترك الملف في يد غيرها، حرصاً على موقعها الجيوسياسي أكثر من حرصها على سلام السودان.
شهدت محاولات التفاوض لإنهاء الحرب مرحلتين أساسيتين منذ اندلاعها في أبريل 2023. بدأت بمنبر جدة برعاية السعودية والولايات المتحدة، حيث وُقّع إعلان لحماية المدنيين واتفاقات قصيرة لوقف النار، لكنها انهارت سريعًا بفعل الخروقات وتضارب مصالح الوسطاء. ثم جاءت جولة جنيف في أغسطس 2024 بمشاركة سويسرا والإمارات ومصر، وتركزت على وقف العمليات القتالية وإتاحة الممرات الإنسانية، لكنها بدورها لم تُحدث أثرًا ملموسًا لغياب الإرادة السياسية وحسم النفوذ على الأرض.

مواقف بلا وضوح

الولايات المتحدة، التي تُمسك بخيوط اللعبة الدولية، تنظر إلى السودان بعين المصالح لا المبادئ. فهي ترى في شرق البلاد بوابة استراتيجية تتقاطع عندها مصالحها مع النفوذ الروسي، لذلك لا تريد ترك الملف في يد غيرها، حرصاً على موقعها الجيوسياسي أكثر من حرصها على سلام السودان.

أما الإمارات، التي ترفض الاتهامات الموجهة إليها بدعم أحد طرفي الصراع، فترى في الحرب فرصة لتمديد نفوذها التجاري واللوجستي في بلدٍ هشٍّ تتهاوى مؤسساته. بينما تبدو السعودية ومصر أكثر حذراً؛ فهما تؤكدان على وحدة السودان وسيادته، لكن موقفيهما يميلان بوضوح نحو قيادة الجيش، مع حرصهما على الظهور بمظهر الوسيط المتوازن.

المفارقة أن الرياض كانت أول من سارع إلى إطلاق منبر جدة في 6 مايو 2023 في بدايات الحرب، قبل أن تُغلق أبوابه دون أن يتحقق سلام أو حتى وقف نارٍ دائم.

الواقع الميداني وتعقيد السياسة

التفاوض يفترض طرفين متكافئين أو متقاربين، لكن الواقع السوداني أكثر تعقيداً من ذلك. فـ"الدعم السريع"، الذي فقد حاضنته الاجتماعية بعد انتهاكاته الواسعة، يحاول أن يرتدي ثوباً سياسياً جديداً تحت عنوان "تحالف السودان التأسيسي"، ليجد لنفسه موطئ قدم على الطاولة، ويمنح مشروعه العسكري شرعية مفقودة.

أما الجيش، الذي يقاتل على جبهات متعددة، فيدرك أن أي تسوية لا تضمن له وحدة المؤسسة العسكرية قد تفتح أبواباً لصراعات جديدة. والحركات المسلحة التي تحالفت معه تعرف أن التفاوض في ظل حسمٍ عسكري غير مكتمل فخٌّ مؤجل، لكنها أيضاً تخشى أن تخرج من المشهد إن سيطر الدعم السريع على الفاشر، مركز الثقل في دارفور.

مدنيون في الهامش

في الطرف الآخر، يقف تحالف صمود حائراً بين رغبته في أن يكون جزءاً من أي تسوية قادمة، وبين خشيته من أن يُستبعد من المشهد لصالح القوى القديمة. وهو يراوح مكانه بين الخارج الذي يعوّل عليه، والداخل الذي فقد ثقته منذ اندلاع الحرب.

يبقى موقف الرباعية غامضاً. فإذا كانت المفاوضات بين طرفي الحرب، فلماذا لا يُعاد إحياء منبر جدة؟ وإن كانت حول النفوذ، فما الذي يملكه الدعم السريع ليقدمه؟ ثم ما مصير حكومة "تحالف السودان التأسيسي" إذا انهارت الفاشر؟
أما القوى المدنية الأخرى، من الكتلة الديمقراطية إلى الإسلاميين، فتبدو إما منقسمة أو منشغلة بحسابات النفوذ، في وقتٍ لم يعد فيه المواطن يبحث عن سلطة، بل عن مأوى ولقمة أمان.

الرباعية.. غموض النوايا

يبقى موقف الرباعية غامضاً. فإذا كانت المفاوضات بين طرفي الحرب، فلماذا لا يُعاد إحياء منبر جدة؟ وإن كانت حول النفوذ، فما الذي يملكه الدعم السريع ليقدمه؟ ثم ما مصير حكومة "تحالف السودان التأسيسي" إذا انهارت الفاشر؟

وهل ستكون القوى السياسية والعسكرية والمدنية جميعها جزءاً من عملية شاملة لا تُقصي أحداً، أم أن الرباعية تُعدّ لتسوية جزئية جديدة تعيد إنتاج الأزمة في ثوب مختلف؟

كلمة أخيرة

الحرب في السودان لم تعد صراعاً بين جيش ومليشيا فقط، بل بين مشاريع نفوذ إقليمية ودولية تتقاطع فيها مصالح الخارج فوق جراح الداخل. وعلى الرغم من تصريح مسعد بولس، المستشار الرئاسي الأمريكي للشؤون الأفريقية، أن الرباعية ركزت على توقف دعم أطراف الحرب. فإن الحقيقة التي يتجاهلها الجميع هي أنّ السلام لا يُصنع في العواصم البعيدة، بل في ضمائر السودانيين أنفسهم. فمن لا يملك قراره، لن تمنحه الرباعية سلاماً ولا سيادة.
التعليقات (0)