هناك مجموعة من المقولات المفتاحية التي ترتبط بتصور حدث الثورات العربية؛ خاصة وقد دار حول هذه الثورات لغط كبير ضمن خطاب سياسي مؤدلج يحاول طمس هذه الثورات، بل وتشويهها من كل طريق، ووصمها بالمؤامرة، ولكن في حقيقة الأمر هذه المقولات المفتاحية تمثل منظومة شبكية شبه متكاملة للنظر لهذه الثورات وطبيعتها وأهم سمات
التغيير المتعلق بها.
- الثورة ليست عورة:
الثورة فخر لكل من شارك فيها، وليست عورة أو أمرا يشعر من ينتمي إليها بالخزي والعار، مثلما حاول النظام السابق والانقلاب اللاحق إلصاق كل نقيصة بيناير وأصحابها، وتم تنويع الاتهامات ما بين اتهامات أخلاقية وأخرى بنيوية وسياسية، وتم اتهام الثورة بأنها السبب في كل تراجع أو أزمة حصلت وتحصل في البلاد بصورة لا يمكن تصورها، وذلك في إطار مخطط أجهزة الدولة العميقة لإسقاط الثورة وتشويه صورتها، ولكننا نؤكد أن الثورة فعل حضاري إنساني يثير الفخر والعزة لكل من شارك فيه وآمن بأهدافها وتمنى نجاحها.
- الثورة ليست جولة:
من طبيعة الثورات أنها موجات متوالية وجولات متعددة، لا يمكن اعتبار فشلها في جولة واحدة أنها انتهت أو سقطت، ولكن الثورة حالة مستمرة تتعرض لأزمات وتستعيد قوتها، تضعف وتقوى
من طبيعة الثورات أنها موجات متوالية وجولات متعددة، لا يمكن اعتبار فشلها في جولة واحدة أنها انتهت أو سقطت، ولكن الثورة حالة مستمرة تتعرض لأزمات وتستعيد قوتها، تضعف وتقوى، وتحتاج لمن يقوم عليها ويحميها من نفسها وأصحابها ومن أعدائها، ولكن متى وقع الفعل الثوري في مجتمع فإن ذلك يعني ضمن ما يعني أن هذ المجتمع لن يعود للوراء من جديد، وأنه تجذر في وعي أفراده أن هذا المجتمع لم يعد يصلح له إلا التغيير.
- الثورة عمل شعبي.. الثورة ليست بسماحك:
تشكل هذه المقولة ردا على بعض هؤلاء الذين تصدروا السلطة عن طريق الانقلابات؛ ذلك أن السيسي بعد انقلابه قد كرر أكثر من مرة أنه لن يسمح بتكرار أحداث الخامس والعشرين من يناير مرة أخرى؛ وكأن التحكم في فعل الثورات ملك يمينه؛ ومن هنا كانت تلك المقولة "الثورة ليست بسماحك"، ولكنها فعل إرادي تتكتل فيه القوى وتحشد فيه الطاقات الرمزية والنوعية فتحقق أمل الناس وأشواقهم، وتحاول أن تتلمس ضروراتهم ومطالبهم، وتعبر عن كل ما يتعلق بالعزة والكرامة معنويا وبطاقات القيم الإنسانية في الحرية والعدالة وفي مطالب عموم الناس بالعيش الكريم.
فالثورة هي عمل يتعلق بإرادة الناس تقودها مجموعة تتسم بالوعي وتحس بالظلم فينحاز إليها الشعب بأسره ويحتضن فعلها الثوري، ويشكل الشعب بتنوعاته ظهيرا داعما لها وشلالا رافدا لفاعلياتها. الثورة طاقة إرادة وطاقة فاعلية وحشد واعٍ وقدرة إيجابية طلبا للتغيير وتحقيقا لتحولاتٍ ضرورية، بعد أن سادت شبكات الفساد والاستبداد وتمكنت، وانسدت قنوات التعبير والتغير وحوربت، فيؤدي ذلك إلى حالةِ وعيٍ تترجم في حالة ثورية إلى لحظة تنفجر فيها الثورة، ومن ثم فإن الثورة لا تكون بالسماح من أحد أو بتمرير منه أو أنها صناعة مدبرة كما حدث في بعض مشاهد الثلاثين من يونيو، والتي أعقبها انقلابا تدثّرَ بعد ذلك بغطاءٍ شعبي مصطنع حاول من خلاله أن يمرر عمل المضادين للثورة.
- رقعة التغيير تتزايد.. لا أحد يستطيع أن يوقف الطلب على التغيير
إن دراسة معطيات استمرار العوامل الدافعة على الثورات واستمرارية الطلب على التغيير: الأسباب الداخلية والإقليمية والدولية، تؤكد أن التغيير قادم وأن الطلب على التغيير لن يتوقف، خصوصا مع الأجيال الجديدة التي عرفت الحرية وترسخ في وعيها أن الحاكم يمكن تغييره وأن تغييره واجب إذا فسد وطغى، واقتناعهم بأن عدم قدرتهم على التغيير لا تعني التسليم أو القبول به، ولكنهم يتحيّنون الفرصة للانقضاض عليه، ذلك أن رقعة التغيير تلك تتعلق من جانب بأشواق التغيير، حتى مع تصور البعض أن عوامل التغيير وشروطه الكلية لم تبلغ بعد حد النضج، وهي ترتبط بالآمال التي تتعلق بالحكم الراشد والمجتمع الفاضل، أي أنها تشكل في الحقيقة نزوعا تأسيسيا لنُشدان الأفضل للإنسان في مجتمعه ونظام الحكم الذي تستحقه الشعوب، فتعبر عن إرادتها السياسية في بعض تلك الظروف لتشكل حالة ثورة أو مشروع ثورة.
- الثورات كامنة قائمة والتغيير الكبير قادم:
مهما شعرت الأنظمة المستبدة باستقرار الأوضاع وامتلاكها لسبل السيطرة على الشعوب من خلال المنظومات الإعلامية والقضائية والأمنية بما فيما من شرطة وجيش، فإن ذلك لا يعني أن الثورات انتهت، فالثورات كامنة ولا يمكن لمن ذاق الحرية والكرامة الإنسانية أن يتنازل عن ذلك، فالثورات كامنة تحت طبقات الظلم والاستبداد وتنتظر اللحظة المناسبة للانقضاض على هذه الأنظمة الفاسدة الباطشة والقيام بالتغيير الكبير الذي سيأتي، وإن أحكمت هذه الأنظمة قبضتها على مقدرات الأوطان والمواطنين.
- مشهد الثورات يتجدد، ولكن التعاطي مع الثورات لا يزال يتعثر:
شكل الانقلاب في مصر وما جرّه على البلاد من ويلات منذ عام 2013، وتعثر الثورة السورية بعد تحقيق النظام تقدما كبيرا على الأرض بدعم روسيا وإيران، وعدم استقرار الأوضاع في ليبيا واليمن، سمعة سيئة للثورات العربية. وقد مثلت تونس في مرحلة من المراحل نموذجا على أن هناك فرصة أمام شعوب العالم العربي لاستعادة كرامتها وحريتها وتحقيق العدالة الاجتماعية فيما بينها، إلا أن هذه الخبرة لم تكتمل بسبب وقوع ما يمكن تسميته بالانقلاب المدني، وهو ما أدى إلى الالتفاف على الثورة، وصارت كل النماذج تحت الحصار.
كما أن التحدي الذي تواجهه كل دولة يكمن في إيجاد المسار المؤدي إلى عملية انتقالية سياسية واقتصادية تُرضي الشارع، خصوصا أن الربيع العربي لم يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد، لكنه دخل في سبات مؤقت وإن كان عميقا على ما يبدو، متأثرا في ذلك بوحشية الأحداث في سوريا وليبيا واليمن ومصر، وهو ما أدى إلى أن الموجة الثانية من الربيع العربي عرفتها دول لم تكن في الموجة الأولى مثل الجزائر والسودان، إلا أن الموجات التالية من المتوقع لها أن تحدث في دول الموجة الأولى من دول الربيع العربي، ولعل سوريا تمثل إرهاصا لتغيير جديد.
- الثورات قامت فرادى واستهدفت مجتمعة:
من الأهمية بمكان التأكيد أن الثورات حينما قامت لم يكن هناك اتفاق فيما بينها، بل إن بعض الثورات وخصوصا الثورات الأولى مثل تونس ومصر لم يكن من قاموا بها يصفونها بأنها ثورة من البداية، ولكن اشتراك عموم الناس واستهداف النظام السياسي وإسقاطه حَوّل هذه الانتفاضات والمظاهرات لثورات شاملة في الوقت نفسه، فإن الدول الإقليمية التي استهدفت الثورات في المقام الأول علمت على مواجهاتها بصورة جماعية، واستعانت بأجهزة الدولة العميقة في كل دولة من دول الثورات وعملت على التنسيق والتعاون فيما بينها، لإسقاط الثورات وصناعة صورة عامة سلبية حولها. ولعل الحجج التي لم يمل منها عناصر الانقلاب المصري من التخويف من مصير بعض الدول الأخرى، لدليل على مدى الاستهداف والتوظيف التي حرصت عليه القوى التي تعمل ضد الثورات وتسعى لإسقاطها.
- الاستعداد للتغيير القادم الكبير وعملية الإحياء الثوري:
إن التحسب للثورة المضادة والقيام بالاصطفاف الواجب لا يصلح وحده ليكون أساسا وتأسيسا لانطلاقة ثورية جديدة، بل إن صناعة وتصنيع حاضنة شعبية حقيقية وظهير شعبي يشكل شلالا شعبيا لدعم الثورة وأهلها وقواها وعملا مكملا لا يجوز بحال التغافل عنه، وقد جاء الانتصار الكبير للثورة السورية على نظام الأسد ليقدم نموذجا على ضرورات التغيير القادم.
- الثورات علم إرادة الشعوب:
الثورات تسكن مفهوم السياسة لتؤصل معاني الكرامة والعزة ومواجهة الاغتصاب من أي قوة كانت وبأي شكل كان، ومن ثم تجعل من المقاومة حالة طبيعية ورد فعل حقيقيا؛ لتقوم بأمرين: مقاومة ما يتسرب إلى النفوس من إحباط ويأس، وتمكين كل ما يتعلق بصناعة الأمل واستشراف المستقبل. وحينما يمارس الإنسان ذلك الفعل المقاوم إنما يريد ألا يعيش أولاده وربما أحفاده ذات الحال التي عاشها، ليؤكد أنهم يستحقون حالا أفضل مما كان في حياته. ومن هنا، فإن حال الثورات التدافعي ليس معركة واحدة؛ نقول من بعدها إن الثورة قد انهزمت والثورات المضادة قد انتصرت، ولكن التدافع المقاوم هو أصل لطلب كل إصلاح جذري ومواجهة كل فساد غالب "وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ" (البقرة: 251).
- المستبد مشروع خيانة:
المستبد يعرف جيدا مواطن ضعف البشر ويحاول استغلالها بأبشع الطرق وأكثرها دناءة في نفس الوقت، ونذكر من هذه الأدوات حسب ترتيب أهميتها؛ المستبد يستغل ما يملك من صلاحيات للتحكم في رقاب مرؤوسيه، والحاكم المستبد يستغل جنوده (الشرطة والجيش) لإرهاب رعيته، ويستغل النظام السياسي الموالي له لإضفاء الشرعية على أفعاله، وتجريد خصومه من تلك الشرعية، ووصفهم بالتآمر والخيانة والإفساد في الأرض وتعكير صفو الأمن؛ مستخدما المال ومن لا يصلح معه الترهيب بالسلطة يصلح معه الترغيب بالمال، وكذا المناصب، إذ ينتقي المستبد من بين الناس أولئك المتعطشين والراغبين في العلو بأي ثمن فيستخدمهم ويستعملهم كدروع له وكأدوات لحمايته وتبرير أفعاله وتمجيده وتحسين صورته أمام العامة. ويلعب الإعلام دورا في ذلك إذ يمارس تزييف الوعي والتغييب للعقول، وعلماء السلطان يلعبون الأدوار في إضفاء شرعية دينية على فكرة
الاستبداد، وعلى كل أفعال المستبد باستغلال المفاهيم الدينية لتبرير وتمرير كل ما يقوم به المستبد، وإصدار الفتاوى المبنية على تفسيرات تلوى عنق الحقيقة لمصلحة المستبد على سبيل التزييف والتزوير.
ضمن مقولة خيانة الثورات؛ يقول فواز جرجس في كتابه "الخيانة العظمى": إن التقاء الاستبداد السياسي، وتدخل الغرب، وآثار الصراعات الإقليمية الطويلة الأمد، قد أنتجت شللا سياسيا وركودا اقتصاديا. لقد أُحبطت قدرة الناس العاديين على اتخاذ قراراتهم بفعل وضع راهن استبدادي تحافظ عليه شراكة قوية من القوى الخارجية والداخلية.
المستبد مشروع خيانة، يخون أمته ويستقدم مستعمرا ويصيره حليفا له، يستبيح أرواح وكرامة هذه الشعوب؛ إن المستبد مشروع خيانة، يخون وطنه ويهدر كرامة شعبه
المستبد يكون في النهاية مشروع خيانة، ضمن معادلة ترفض المستبد والاستعمار معا. صرنا في مساحات السيادة نستجير من الرمضاء بالنار، ولم نواجه بعد حال الاستبداد المقيم الذي يشكل مشروع خيانة للوطن وللشعوب، وادعاء بالهيبة، وهم أقرب ما يكون إلى العبيد لأقوياء آخرين. فقط هم يستعبدون شعوبهم، وينكّلون بهم استخفافا واستباحة. إنها متوالية الاستبداد؛ حينما يدعم استبداد الخارج، حفاظا على مصالحه، استبداد الداخل كأداة تتغوّل على الضعفاء من شعبه. وفي النهاية، ينسدل الستار على مشهد السيادة المفقودة، والسيادة المزعومة.. أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة.
وضمن مقولات السيادة الزائفة تم تداول كلمة السيادة من زعماء كثيرين في بلاد العرب يحترفون الاستبداد؛ حينما ينطق هؤلاء بهذه الكلمة السحرية، وقد ارتدت قناع الهيبة الكاذب. والحقيقة أن السيادة مفقودة، وهم يتحدّثون عن سيادة مزعومة، مصحوبة بفائض من الكلام، وحديث عن سيادة الدولة، ودول مستباحة لا تعبر حقيقة عن أي سيادة حقيقية، بل إن بعض هؤلاء يتنازلون عن سيادات دولهم بخاطرهم وباختيارهم، وهم يتحدثون عن أن ذلك لخدمة الوطن، وإنفاذا لمصالحه وإعمالا لسيادته، ويمتلئ فائض الكلام بالتناقض،
فالمستبد مشروع خيانة، يخون أمته ويستقدم مستعمرا ويصيره حليفا له، يستبيح أرواح وكرامة هذه الشعوب؛ إن المستبد مشروع خيانة، يخون وطنه ويهدر كرامة شعبه، ويريق دمه ويطارد أهله، في كل ذلك يمارس كل ما من شأنه أن يدشن عقلية قطيع لا يحسن سياسات التجويع والترويع. وفي ذاكرة التاريخ يأتي العدو، يستقدمه ويستدعيه المستبد، يستقوي به على شعبه، يستخدم كل أدوات الإبادة، لا يستنكف عن ذلك، ليشكل ذلك أخطر مشاهد بيع الأوطان واستباحة النفوس، وترويج الأوهام الكاذبة وخيانة المستبد.
كلمات مفتاحية ترتبط بالظاهرة الثورية من ناحية ومشاتل التغيير السابقة والقائمة واللاحقة؛ وفي سياقات إحياء الثورات من ناحية أخرى؛ وجب تدبرها والتعامل على قاعدة منها.
x.com/Saif_abdelfatah