قد
يختلف المهتمون بتشخيص أزمة الأمة، من أنها أزمة علم ومعرفة أو عقلٍ وفكرٍ وإدراك،
أو كما يشخصها بعض من الباحثين والمفكرين بأنها أزمة تخطيط سليم وتنظيم حكيم
لأهدافنا وطموحاتنا، في حين يراها البعض أنها أزمة برامج ومشاريع تربوية وحضارية معاصرة
تحتاج الأمة -في ظل الظروف القاسية التي تمر بها، والتحديات التي تحيطها- إلى مشاريع
حضارية راقية تحفظ لها كيانها السياسي ووجودها الاقتصادي والعسكري، وثروتها
الفكرية والثقافية، وتضمن لها جيلا واعيا راشدا، جامعا بين الوحي والوعي والسعي.
قد
يكون كل ذلك محل اختلاف، إلا أن الأمر الذي لا يجوز الاختلاف عليه أن
المشروع
الحضاري للأمة الواحدة المؤكد على معنى جامعيتها يقوم في الحقيقة على تراثها
وأصولها، ومن قيمها ومبادئها، ونجاح هذه الأمة يعتمد بصورة أساسية على مدى أصالة
هذا التراث، وهذه القيم والمبادئ، واستثمار كل إمكانات هذه الأمة ومكنوناتها،
فتحولها إلى مكنة، ومكانة؛ وممكن؛ وتمكين. وربما نرى تجليات هذه الأزمة في تركيب
وجوهها وفي تداخل مجالاتها وفي تعقد سياقاتها واختلال موازين اعتبارها.
الأمر الذي لا يجوز الاختلاف عليه أن المشروع الحضاري للأمة الواحدة المؤكد على معنى جامعيتها يقوم في الحقيقة على تراثها وأصولها، ومن قيمها ومبادئها
كذا فإنه من أهم الإشكالات التي تتعلق بالبحث في المشروع
الحضاري الإسلامي وأهم تصنيفات مشاريعه الفرعية إمكانية التصنيف الجامع لهذه
الظاهرة، وقد اعتمدنا تصنيف الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه مشاريع الإشهاد الحضاري،
والتي حددها في مشروعات كبرى:
- المشروع السلفي الذي يضم كلا من الحركة الوهابية
والسنوسية والمهدية.
- والمشروع التحرري الذي جمع أعلاما من المصلحين
والحركات، والذي يمثله على وجه بارز الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وخير
الدين التونسي وابن باديس.
- ومشروع الإحياء الإيماني والتربوي الشامل والذي اتخذ طابعا حركيا
بارزا، والذي يمثله بالأخص الإخوان المسلمون والجماعة الإسلامية في شبه الجزيرة الهندية.
- ويمكن إضافة اتجاه فكري إسلامي معاصر تمثل في اجتهادات معاصرة
وارتبط بعضهم بمشاريع فكرية من أمثال مالك بن نبي والحكيم البشرى ومحمد عمارة.
- كذلك يمكن الإشارة إلى توجهات ومشاريع فكرية مؤسسية من مثل مشروع
إسلامية
المعرفة، ومشروع مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي والتي دشنت مشروعا مقاصديا
تأصيلا وتفعيلا وتشغيلا.
- كما لا يفوتنا التنويه إلى مشروعات حركية معاصرة ارتبطت بما أسمي
بالصحوة الإسلامية، وهي من الكثرة حتى يحسن الرجوع إليها في مظانها في موسوعات
صدرت حول الحركات الإسلامية.
إن
المشروعات ذات الطبيعة الجغرافية والجيوسياسية لا تقل أهمية عن المشروعات ذات
الطبيعة الفكرية، وغالب أمرها أنها تتلبس بغطاءات فكرية وتلبس ثوب المشاريع الحضارية،
وأن التدافع معها لا يقل بحال عن المشروعات الأيديولوجية والفكرية والثقافية، ويقع
على رأسها مشروع الشرق الأوسط كبيرا أو محدودا؛ واسعا أم مضيقا؛ قديما أم جديدا؛
كلها أوصاف تتعلق بطبيعة المراحل والسياقات وتبدل المصالح والغايات.
في واقع الأمر أنه لا يمكن دراسة المشروع المتعلق
بالتغيير الحضاري إلا في ضوء الذاكرة التاريخية والحضارية للمشاريع المتعلقة
بالأمة العربية والإسلامية، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التعرف على هذا المشروع
التغييري لا يمكن أن يتم إلا من خلال رؤية هذا المشروع ضمن اجتهادات المشروعات
الأخرى، وضمن سياقات البيئة الكلية المحيطة بها جميعا. وفي إطار ذلك نستند إلى فكرة
محورية ترقى لأن تكون في مرتبة المسلمات؛ مفادها: أن "الأمة" حينما تحمل معنى الجامعية والقوة فهي "الأمة- الوسط" التي تقوم
بدورها في عملية الشهود الحضاري، وحينما تحمل معاني الضعف والاستضعاف فهي
"الشرق- الأوسط" أو "المسألة الشرقية" أو "الشرق-الأوسط-الكبير"؛ أمة مشهودة تعد موضوعا لا طرف على مستوى المكانة الحضارية.
إن حضور مفهوم "الأمة" يعني "الأَمّ"
وهو القصد والوجهة، فالأمة محل القصد والقبلة والاتجاه. وحينما يبرز مفهوم جديد لا
يُعنَى "بالأمة الوسط" وإنما "بالشرق الأوسط" مضافا إليه صفة
"الكبير"، فإنما يشير ذلك إلى معانٍ جغرافية، ويشير إلى أن مَن أطلق صفة
"الكبير" (الولايات المتحدة) إنما يحدد عناصر اهتمامه هو ومجاله الحيوي
فيما يعتبره يحقق مصالحه هو، ويحقق عناصر استراتيجيته الكونية في منطقة تعتبر عقدة
استراتيجية، ولكن هذا يحوّل الأمة من قَصْدٍ، ومن بشرٍ قاصد، ومن مقصود وفكرة ورسالة،
إلى "مكان" مُصمَتٍ يراه الخارجُ كيفما شاء وكيفما تصور، وكأنه مساحة
خالية من البشر الفاعل أو الفكرة الجامعة، إنه -بهذا- مجال للفك والتركيب وإعادة
التشكيل وهندسة المنطقة في إطار تتحكم فيه "هندسة الإذعان".
هذه
المنطقة منطقة عقدة استراتيجية؛ هذا حديث الجغرافيا والتاريخ، وهي ليست فحسب محط
أنظار وممر أقوام، ولكنها كانت ولا زالت ساحة للتدافعات الدولية وتقاطع المصالح
لأمم متعددة؛ لمشاريع شتى؛ المشروع الغربي فتطوراته التاريخية وحقبته الاستعمارية؛
المشروع الصهيوني صنيعة هذا المشروع ورأس حربته في المنطقة؛ المشروع الروسي الباحث
عن موازنة مناطق نفوذ؛ المشروع الصيني الصاعد الداخل في حروب تقنية وتجارية مع
الطرف الأمريكي المهيمن؛ المشروع الإقليمي التركي؛ والمشروع المذهبي الإيراني؛
وبعض المشاريع الإقليمية العربية الباحثة عن أدوار تخصها؛ المشروع الغائب هو
المشروع الإسلامي الجامع؛ وهو ما جعل المنطقة ساحة لذلك التنافس والصراع ومشاهد
التدافع المستمرة والمتجددة. فأين مشروع الأمة الحضاري الجامع؟ وللأسف الغائب "مشروع
الأمة الوسط".
الاهتمام بشأن المشروع الحضاري والبناء الحضاري وهندسة الاجتهاد المقاصدي ومعادلاته السننية الاستراتيجية وأصوله العمرانية والحضارية، بما يؤسس رؤية في تجديد جامعية الأمة، للخروج من حال الاختلاف إلى فن الائتلاف في إطار الموافقات الكبرى في سياق اعتصام الأمة وتماسكها؛ يعتبر من أوجب الواجبات
إن الاهتمام
بشأن المشروع الحضاري والبناء الحضاري وهندسة الاجتهاد المقاصدي ومعادلاته السننية
الاستراتيجية وأصوله العمرانية والحضارية، بما يؤسس رؤية في تجديد جامعية الأمة، للخروج
من حال الاختلاف إلى فن الائتلاف في إطار الموافقات الكبرى في سياق اعتصام الأمة وتماسكها؛
يعتبر من أوجب الواجبات، وذلك للتعامل مع جملة التحديات وتقويم عالم الاستجابات وبناء
وتأسيس الاستراتيجيات. ومن هنا كان ذلك المدخل الكلي الهادف إلى الألفة الجامعة للتمكين
لكل أمر يؤدي إلى جامعية هذه الأمة وفاعليتها، من ضرورات البناء الاستراتيجي والحضاري
ضمن أصول الفقه الحضاري والاستراتيجي والعمراني؛ "فقه جامعية الأمة ومانعية افتراقها
وتفرقها" في واقع الدولة القومية والسياسات الكونية والعولمية.
- إذا
اتحدت التحديات وجب اتحاد الاستجابات.
- إذا
ضعفت الاستجابات وجب وضع الاستراتيجيات.
- إذا
وُضعت الاستراتيجيات وجب الوعي بالحاجات.
- والتفكير
بالوسائل والأدوات والآليات.
- إذا
ارتبكت المدركات وغامت المفهومات واضطربت التصورات غابت الرؤى وتشكيل الاستراتيجيات.
- إذا
وُجدت القابليات تمكنت الأفعال والفاعليات.
- نحن
في عصر تقسيم المتكاملات والتفتيت إلى جزئيات وتقسيم الكيان إلى منفصلات ومحميات.
- إذا
وُجدت الاختلافات بين مؤتلفين وجب الخروج بها إلى دائرة الائتلافات، وإذا لم يكن منها
بُد، فلا بد أن نتعلم فن إدارة الاختلافات.
- لا بد
أن نحرص أن توجد الاختلافات دائما فيما بيننا في دائرة التعددات والتنوعات والتكاملات،
لا في دائرة التناقضات والتنازعات. وإذا تنوعت الإمكانات وتعددت القدرات صار فقه التجميع
والتنظيم والتنسيق أولي.
كل ذلك
يهدف إلى بناء موقف يحفظ جامعية الأمة في إطار صياغة موقف تجديدي من خلال الكليات الفاعلة
في المدخل المقاصدي، ولا شك أن النظرة الإيجابية لممارسة هذا الاجتهاد المقاصدي التي
تجد أسسها في اجتهادات مقاصدية سابقة واجتهادات معاصرة؛ إنما ترشح هذا المدخل التجديدي
للقيام بدور محوري في عملية تحقيق جامعية الأمة واعتبار عملية التقريب واحدا من أهم
مسارات تحقيق الجامعية، ولكنها بمثابة المقدمة لعملية بناء مشروع حضاري عمراني للأمة.
وهنا
يبدو عالم الأحداث الذي يضع الأمة في الاضطلاع بمسئوليتها وأدوارها المكافئة للأمة
وصناعة مكانتها، من مثل طوفان الأقصى وكذا تحرير سوريا، مشاتل بما تواكبه من أحداث
زمنية تشكل مشاتل تغيير حقيقية؛ "إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ
يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ" (الرعد: 11).
x.com/Saif_abdelfatah