ثمة عوامل كثيرة متقاطعة
ومتداخلة ما بين مظالم سياسية واقتصادية واجتماعية، إلى
ثورة اتصالية تكنولوجية عبّأت
ونظّمت وسهّلت انتشار الحالة الثورية، وهيمنت على المزاج الثوري على الشعوب
العربية وانتقاله من دولة لأخرى، ولعل عدم معرفة هوية الطرف المحرك لهذه الحالة
الثورية، والتي تختلف من بلد لآخر، هو سبب نجاحها في البداية. إلا أنه مع افتقاد
أغلب تلك الثورات إلى استراتيجية متكاملة للتغيير؛ يعقبها غالبا ما يعرضها لظواهر
ربما مع تكرارها وتواترها تفرض حالة ضبابية للانتقال السياسي، وهو ما قدم مناخا
نموذجيا لحالة الاستقطاب السياسي المفتعل والذي يقوم على تصنيع الأزمات للأسف
الشديد؛ وإشكالات في الخبرات الثورية من المهم تفحصها والوقوف عليها بحيث تؤسس
لقراءة اعتبار تقف على الدروس المستفادة في خضم
التغيير القادم.
1- الاستقطابات
مقبرة الثورات (إشكالية التعاقد السياسي): افتقاد
المشروع السياسي، فالمشروع السياسي يحتاج للحد الأدنى من التوافق، ومفاهيم التعاقد
السياسي والاجتماع الجديد (الثورات لها شروط أساسية ومؤسسية- الدستور الانتقالي
وضروراته- وضرورة الانشغال بأمور الثورة وتحصينها حتى لا تضيع). فمع غياب التصور
في مسألة التوافق السياسي تبرز الاستقطابات على السطح ضمن الممارسات السياسية
لكافة الأطراف، وتتصدر المشهد وتكون سيدة الموقف وتتفاعل العوامل ليكون الاستقطاب
وتمكن فيروساته مقبرة للثورات.
مع غياب التصور في مسألة التوافق السياسي تبرز الاستقطابات على السطح ضمن الممارسات السياسية لكافة الأطراف، وتتصدر المشهد وتكون سيدة الموقف وتتفاعل العوامل ليكون الاستقطاب وتمكن فيروساته مقبرة للثورات
وظاهرة الاستقطاب بوجه عام في
مجتمعات ما بعد الثورة ليست بالظاهرة الحديثة ولا الجديدة، فمعظم الثورات قامت
القوى المضادة لها بمحاولة تصنيع هذه الظاهرة في إطار تمديد وقت الصراع لاستعادة
زمام المبادرة والدور الذي فقدته لحماية مصالحها. ويمكن أن نلخص العوامل في الأربعة
التالية: المدخل الأيديولوجي، والمدخل الطائفي، والمدخل العرقي والقبلي، والمدخل
التنافسي المتحول إلى صراعات.
إن هذه العوامل ليست فقط عوامل
لتصنيع ظاهرة الاستقطاب، ولكنها عوامل لإضعاف أي دولة وتفكيكها. وعندما نراقب
ونتتبع هذه العوامل في ثورات الربيع العربي سنجد أن كل دولة استخدم فيها عامل أو
أكثر، إن لم يكن استخدمت العوامل الأربعة كما حدث في الحالة
المصرية؛ حيث قامت قوى
الثورة المضادة محليا وإقليميا باستخدامها لتفرقة وتشتيت الثوار أو المحسوبين
عليها، وعند التدقيق في الظاهرة نجد العوامل الأربعة تلاقت في نقطة واحدة وهي قُبيل
الانقلاب في 3 تموز/ يوليو، حيث قامت باستثمار الظاهرة لصالحها لإسقاط أول رئيس
منتخب جاء بعد الثورة.
2- علم إدارة المراحل الانتقالية.. الشروط والأداء (إشكالية إدارة الاستثناء):
غالبا يلف تصور هذه المراحل الانتقالية الغموض الكبير، بحيث لا يوجد تصور متكامل
لإدارة هذه المراحل بشروطها وفق دراسة الخبرات السابقة والمشاكل المتعلقة والعلاقة
بمثل هذه المراحل الانتقالية - إدارة الاستثناء بين المتطلبات والشروط والمقاصد-
فأولوية التوافق السياسي تجعل من الضروري البحث عن أشكال وأدوات غير متعارف عليها
في عملية الانتقال الديمقراطي ضمن ظروف متغيرة، ذلك أن الانتقال الديمقراطي بعد
ثورات غير عملية التحول الديمقراطي ضمن انتخابات أو بعد انتخابات. ومن هنا وجب
علينا أن نتعرف على مقتضيات الاستثناء وإدارته والانتقال وضرورته، حتى يمكن أن
تقوم تلك التحولات الأولية ضمن عملية انتقال سياسي أبعد بكثير من مسألة التحول
الديمقراطي، قد تكون الأولوية فيه لأدوات ومسالك تشكل قاعدة أساسية وبنية تحتية
للتوافق السياسي الذي يشكل أولوية في بدايات الثورة، في سياق التعامل مع الحالة
الاستقطابية من جانب، وكذلك متطلبات العملية الثورية من جانب آخر، وضرورات التوافق
السياسي ومتطلبات التعاقد السياسي والاجتماعي الجديد من جانب ثالث. وهي أمور وجب
علينا أن نؤسس لها ضمن إدراك شكلي واستراتيجي لإدارة المرحلة الانتقالية، وإدارة
حالة الاستثناء السياسي.
وفي هذا السياق، يبدو لنا على
سبيل المثال أن الانتقال الدستوري مثلا يمكن أن يتخذ أشكالا من اعتماد ما يمكن
تسميته بالدستور الانتقالي، بحيث لا يؤدي إلى استقطابات خطيرة، ويؤدي الوظيفة
الدستورية بأقل نصوص، وضمن مساحة تتقلص فيها الاختلافات وتتزايد فيها رقعة المشترك
والتوافق السياسي. كما أن مسألة الانتقال تفتح ملف العلاقات المدنية العسكرية
وكيفية التعامل معه، خصوصا أن عملية الانتقال متنوعة؛ فمنها السياسي والاجتماعي
والعسكري والاقتصادي والثقافي والدستوري.
عملية الانتقال إذا شديدة
التعقيد والتشابك وتحتاج للتفكير في كل مسار على حدة، ضمن الخصوصية التي تتنوع
فيها الحالات والخبرات الثورية، والتي تتمتع بقدر من العموم والخصوص يجب أخذه في
الحسبان عند التعامل مع الثورات خاصة مراحل الانتقال وإدارتها.
3- النظرة
الرومانسية للثورات (إشكالية الإدراك): وهي
نظرة حامية تنبع من تصورات شديدة العاطفية (الحالة الثورية- المتطلبات الثورية- الشروط
الثورية- الثورات تأخذ أشكالا متعددة- الثورات ليست طريقا معبدة- الثورة ليست عورة-
دراسة في العقبات والتحديات الثورية- الثورة ليست عملا داخليا فحسب ولكنها تستدعي
بيئة إقليمية ودولية- الثورات العربية ليست هي الثورات الملونة في أوروبا- ضرورة
التحسب للتدخل الخارجي في الظاهرة الثورية ومحاولات تطويقها والالتفاف عليها).
إن هذا العمل والخروج مما يمكن
تسميه "الرومانسيات" التي ارتبطت بالتعامل مع ثورة يناير؛ يعد من
الأولوية المهمة والأكيدة للتعامل مع الحالة الثورية بما تستأهله من استراتيجيات
وسياسيات وقدرات بما يمكن لهذه الثورة، سواء ما يتعلق بضرورة مواجهة الثورة
المضادة بكل أشكال وجودها فضلا عن التعامل مع كل أدواتها ضمن خطه استراتيجية
متكاملة، وكذا التعرف على السياقات الإقليمية والدولية والوقوف على معطياتها بما
يحقق رؤية واضحة للتعامل مع تلك المعطيات، بما يعظم استثمار الفرص فيه ويطوّق وفق
الإمكانات المتاحة عناصر الخطر والضرر الكامنة والقائمة فيه.
ولا شك أن أول الأمر يكون في
الإجابة بطريقه نقدية واضحة على تساؤل من طبيعة مزدوجة: لماذا نجحت الثورة المضادة؟
ولماذا انحسرت الثورات العربية وتم حصارها ضمن قابليات صارت بيئة مواتية للثورة
المضادة أن تحقق أهدافها؟ وإذا كان الحال كذلك فما هي الإمكانات الحقيقية الواجب
استثمارها في استعادة تلك الثورات باعتبار ذلك هدفا ثوريا استراتيجيا؟ إن هذه الأسئلة
والإجابة عليها؛ ضرورة في هذه اللحظة الثورية التي يجب تحويلها ليس فقط إلى حالة
ثورية، بل إلى "ملحمة" ممتدة ذات نفس طويل تعرف حقيقة هذه الحالة
الثورية ومتطلباتها الأكيدة؛ استثمارا لحالة الزخم الثوري من ناحية، وقرب العهد
بنا من ثورة يناير في الخبرة المصرية باعتبارها فرصة تاريخية هي والثورات العربية
التي أعلنت فيها الشعوب عن وجودها وتأثيرها، وصارت رقما لا يستهان به في معادلة
التغيير. يجب أن تفرض قوى التغيير نفسها وتستثمر بما يحقق أهداف الثورة؛ حماية
ومكتسبات وغايات.
إن هذا يعني ضمن ما يعني أن
الثورة في حقيقتها لا تعني سقوط رأس النظام التي قامت عليه الثورة، ولا يمكن أن
يحتويها مكان، ولا هي جولة استطاعت الثورة المضادة بأدواتها في الدولة العميقة
وممارسة بعض قدراتها في حشد اصطنعته أجهزة أمنية، أن تشكل رأس هؤلاء المضادين للثورة
وتحالفاتهم الوثيقة التي جعلت من هذه الثورة هدفا للتطويق والحصار والإجهاض، فقامت
بكل عمل لتحقيق أهدافها تلك، وبررت بذلك انقلابات سافرة فاجرة متكاملة الأركان وجعلتها
تتويجا لعملها، وكأنها تخوض معركتها الأخيرة في هذا المقام، وأخرى استُدرجت لما
يشبه الحروب الأهلية وعسكرة الثورات فصار المستبد يشن فيها حروب إبادة حقيقية.
ولكن هذا النصر الذي حققته قوى
المضادين للثورة من دون فطنة الثورة والثوار إلى العمل المكافئ للحالة الثورية
حفاظا عليها وحماية لها؛ لا يعد إلا خسارة من هذه الثورة لجولة تستنفر قوي الثورة
الحقيقية لعمل موجة تغييرية أكيدة وجديدة مستأنفة تستكمل فيها ملحمتها
الثورية بكل طاقاتها بلوغا لغاياتها ومقاصدها.
4- تقاطعات
الثورات الثلاث (إشكالية وعد الثورة وحمايتها): الثورة الأساسية وحمايتها، المضادون للثورة وتربصهم، ثورة التوقعات (الثورات بين
الاجهاد والإجهاض) والتصورات الأساسية والسياسية لمحاضن الثورة وتضمينها في
مراحلها الأولى، وثورة التوقعات وإدراك الثورات؛ حمل خارج الرحم يحتاج لشروط يمكن
أن يؤثر على صحة الأم الحاضنة والجنين الثوري المحتضن برعايتها.
تقاطع الثورات الثلاث شيء مهم
جدا لإدراكه والعمل له ضمن استراتيجيات كبرى تسير فيه الحركة وميزانها وتوازنها،
ضمن عملية التقاطع التي تشكل إدراكا معقدا لفعل الثورات ومراعاة تقاطعاتها
وتفاعلاتها. ومع ثورة التوقعات ومعاش الناس (السياسة معاش الناس)، فإن الثورة
الحقيقية الأساسية تحتاج لأدوات لحماية نفسها، حتى لا يلتف عليها أو يحاول حصارها
أو يبادر إلى فعل التربص لإجهادها، ورصد القوى المضادة للثورة التي تشكل مصالح
النظام القديم والقوى التي تحاول استغلال الأوضاع، وهو أمر يحتاج إلى رصد لخرائط
هذه القوى، ذلك أن الثورات المسماة بالمضادة قد تنحني لريح الثورات وتدخل جحورها
بصورة مؤقتة، إلا أنها في أول فرصة تخرج من جحورها بعد تربص للانقضاض على قوى
الثورة المختلفة بأشكال شتى؛ ضمن أجهزة الدولة العميقة القادرة على تبديد الحالة
الثورية أو تشتيت انتباهها وتشتيت الأهداف، وتشتيت المواقف ضمن صناعة الفوضى
والفرقة.
في مشاتل التغيير تبدو لنا المراجعات (قراءة الاعتبار) من أهم سبل النقد الذاتي حول الخبرات والتجارب الثورية العربية، والوقوف عند الدروس المستفادة لتلافي الأخطاء الجوهرية التي وقعت فيها وتوقّيها في أي تغيير قادم أو إحياء ثوري جديد
5- عملية
التغيير بين النخبة الحقيقية الفاعلة والنخبة الزائفة الفاشلة (إشكالية لصوص
التغيير): شكلت النُخب أزمة الحالة الثورية ليس فقط بممارستها
للاستقطاب السياسي، بل بنقل أزماتهم للحالة الثورية أكثر مما نقلوا الحالة الثورية
للمجتمع، وهي المهمة الأساسية للنخبة حينما تشكل رافعة للحالة الثورية، وهو ما
أفرز طبقة سياسية تكشف عن النخب الزائفة من لصوص التغيير وسماسرته، والانبطاح في
التعاطي مع أهداف التغيير على النحو الذي يؤكد وكأن ثورة لم تكن. وبالمطالبة
بالفتات رغم أن أناسا دفعوا حياتهم ثمنا للتغيير، فإن أهدافا متواضعة بل متهافتة
وضعت أهدافا رئيسة للتغيير المنشود، وظل أعضاء من هذه النخب يقومون بأدوار المخذّلين
والمرجفين في الثورات.
هذه الأمور جميعا تفترض منا
تشريح الحالة النخبوية في الثورات العربية، والمضادين للثورة بما لهم من امتدادات
ومصالح إقليمية ودولية ومحاضن داخلية تمثلها أجهزة الدولة العميقة، وهو مما يؤدي
إلى كثير من التأشيرات ضمن ما يسمى بالنخب في تلك الثورات، سواء تلك النخب المحنطة
أو تلك النخب ضيقة الأفق سيئة التقدير قليلة الحيلة (شراء الذمم في الثورات
العربية، وتعبت الأقنعة من السقوط، الثورة فاضحة وليست كاشفة فحسب)، لم تعد هناك
طريقة طبيعية لتواصل تيارات المجتمع مع بعض سياسيا، وبالتالي لم تتح فرصة لتطوير
ثقافة التعاون والعمل معا لمعالجة المشكلات الاجتماعية.
وكان ذلك جليا عقب الثورات
العربية، حيث كانت جميع أطياف المجتمع جزرا منعزلة، حتى داخلها وبين تياراتها
واتجاهاتها الفكرية والسياسية الشخصية، وانسحب ذلك على الثورة التي لم تجد كتلة
حرجة تحميها وتدافع عنها، وأصبح الجميع مشغولا بتحقيق الأهداف الشخصية الضيقة. ومع
ذلك فقد نجحت الثورات العربية في طي صفحة الحاكم السيادي والمخلص الأوحد في الوعي
السياسي عند الشباب العربي، وهدمت الستار الذي ظل يخفي المشكلات والخلافات
الاجتماعية عقودا طويلة من دون معالجة.
في مشاتل التغيير تبدو لنا
المراجعات (قراءة الاعتبار) من أهم سبل النقد الذاتي حول الخبرات والتجارب الثورية
العربية، والوقوف عند الدروس المستفادة لتلافي الأخطاء الجوهرية التي وقعت فيها
وتوقّيها في أي تغيير قادم أو إحياء ثوري جديد.
x.com/Saif_abdelfatah