كتاب عربي 21

أصول فقه المرحلة في الأمة وعمليات الانتقال الحضاري.. مشاتل التغيير (40)

سيف الدين عبد الفتاح
"التفكير في الانتقال الحضاري يتطلب تحريك الخيال والعقل والوجدان، وتحفيز خيال متنوع عميق، يستشرف ويتصور تغييرات ممكنة على المستوى الجذري لحياة الإنسانية"- عربي21
"التفكير في الانتقال الحضاري يتطلب تحريك الخيال والعقل والوجدان، وتحفيز خيال متنوع عميق، يستشرف ويتصور تغييرات ممكنة على المستوى الجذري لحياة الإنسانية"- عربي21
كما أكدنا في مشروع الانبعاث الحضاري وكما تصوره أستاذنا الدكتور حسين القزاز؛ فإن الانتقال الحضاري هو تحولات شاملة تطال مستويات الحياة الإنسانية الأساسية، الكلية والوسيطة، وهي لا تنحصر في جانب واحد، بل تشمل المعرفة والثقافة، والنظم السياسية والاقتصادية والإدارية والتقنية، والعمران، والتشكيلات المجتمعية، والمقومات، والوظائف الوسيطة كالتعليم والأمن.

ويتطلب التفكير في انتقال حضاري ممكن فحص هذه التغييرات على أربعة أبعاد متداخلة: الخصائص والسياقات (التي تشمل القيم والأفكار والمؤسسات وأنظمة الحياة الكلية والوسيطة)، والسلوك والأداء (أنماط الحياة الناتجة عن التفاعل الديناميكي للحركة)، وسلاسل الأحداث وأنماطها، وقوى الموازين (أوضاع القوى الأساسية بين الكتل والمكونات). هذا التصور يشير إلى أن الانتقال الحضاري ليس انتقائيا ولا يقتصر على التحولات الشاملة، بل هو خاصية تنويع لكل كتلة رئيسة بحد ذاتها، يشمل تغييرا جوهريا في خصائصها، وسلوكها، وأحداثها، وموازينها.

Image1_10202514233720921022341.jpg

يهدف هذا المسعى إلى تحقيق تشكيل حضاري شامل وغير انتقائي، يتضمن تحولات كبرى وجوهرية في خصائص الأمة وسلوكها وأحداثها وموازين قواها. يتطلب ذلك تحريك مخيال الانتقال الحضاري، وهو مخيال متنوع ونشط وعميق، يعمل على تحرير العقل والوجدان من أجل تصور مسارات التغيير

الرواد والمتبنون لنماذج حضارية غالبة قد يعيشون وضعيات مختلفة عن الرافضين النشطين لتلك النماذج، والتفكير في الانتقال الحضاري يتطلب تحريك الخيال والعقل والوجدان، وتحفيز خيال متنوع عميق، يستشرف ويتصور تغييرات ممكنة على المستوى الجذري لحياة الإنسانية.

أولا، قوى الموازين: مقومات نموذج الانتقال الحضاري..

يتكون من مكونات ثلاثة؛ أولها تعريف مهمة دينية جديدة وتشكيلة فريدة تحملها. هذه المهمة تتمحور حول إركاز عقيدة التوحيد الصافية والمهيمنة على جميع مستويات الحياة، وإطلاق مسيرة حضارية إسلامية جديدة متحررة من الالتباس والتبعية الحضارية التي تعيشها الأمة، وثانيها إدراك الواقع وبدء الإمكان الواقعي، والعمل على تطوير ثنائية الإدراك والفعل، وثالثها مراحل عمل عملية للانتقال، تبدأ باستنهاض وتمكين الرائدين لتبني وصدارة مشروع الانبعاث. ونتناول هذه المقومات على التفصيل التالي:

Image1_10202514233815875637269.jpg

المهمة الدينية الجديدة تتمحور حول إركاز عقيدة التوحيد الصافية لإقامة الدين في جميع مستويات الحياة، وإطلاق مسيرة حضارية إسلامية جديدة. التشكيلة الفريدة التي تحمل هذه المهمة يجب أن تتماسك وتستمد فرادتها من التعريف الجديد ومقتضياته. ومن مغذيات التشكيلة الفريدة: الشرائح الإسلامية النشطة في مجتمعات المهجر، والطاقات التغييرية (الثورية وما حولها)، والأفراد والمجموعات الفاعلة. إن إعداد الحملة (الأجيال الأوائل) تكليف أساسي، حيث يجب أن يكونوا متبنين لفكرة جوهرية متعلقة بإقامة الدين، وواعين بمقتضياتها، وقادرين على خوض غمار السعي لتحقيقها.

الانتقال الحضاري هو لحظة فارقة تعيشها الأمة، وتوصف بأنها حالة إحياء جديد، وهو أمر ممكن ومطلوب، ويستدعي اجتهادا في التفكير. يهدف هذا المسعى إلى تحقيق تشكيل حضاري شامل وغير انتقائي، يتضمن تحولات كبرى وجوهرية في خصائص الأمة وسلوكها وأحداثها وموازين قواها. يتطلب ذلك تحريك مخيال الانتقال الحضاري، وهو مخيال متنوع ونشط وعميق، يعمل على تحرير العقل والوجدان من أجل تصور مسارات التغيير. إذ تُبنى الرؤية على مفاهيم أساسية للانبعاث الحضاري وهي: الإعمار، والتدافع، والأمة. ومن المأمول أن يقود هذا الانتقال إلى "حياة أخرى" للأمة، تستمد محدداتها الكلية ومفاهيمها الفلسفية ونظمها المعرفية من مرجعياتها الدينية. هذه الحياة الجديدة، التي تهدف إلى إقامة الدين، تُمكن أبناء الأمة من العيش في كنف الإسلام بسلام، وتسعى لإعمار الأرض وكسب المعايش وإحقاق الحق ودفع الباطل، كما تُنهي حالة القلق والخوف العميق الذي ساد بين الأجيال.

إن الفهم العميق والتدبر الراشد والبصير لواقع الأمة والغرب والإنسانية؛ يكشف أن الأمة تعيش حاليا حالة من التبعية الحضارية، وتحتاج إلى تعريف جديد لمهمتها الدينية الأساسية. أما الغرب المهيمن، فقد تمكنت حضارته، التي تأسست على صبغة علمانية، من بسط سيطرتها على حياة الإنسانية، ولكنها تمر الآن بمراحل تهافت وتصدع داخلي، حيث تتكشف عيوب جذورها الفلسفية والأخلاقية، مع عجز آليات تكيّفها الداخلية. وتعيش الإنسانية ككل تحت وطأة هيمنة الغرب وتنميطه، مما يهدد سلامة الكوكب. وفي المقابل، تظهر موجات جديدة من الصحوات الإسلامية، وتتصاعد صراعات كبرى تعجز منظومة الهيمنة الاستعمارية عن احتوائها. الفعل والتنظيم في المشروع يتطلب تعريف المهمة الدينية الجديدة تنشيط قوى فاعلة في الأمة لتؤدي دورها وتُسهم في إقامة الدين وخدمة الأمة. هذه التشكيلة الفريدة التي تحمل المهمة لا ينبغي أن تعتمد على موقع مركزي أو قيادة تحتكر تطوير الفكرة وتطبيقها، بل تعتمد على ملكية ومسؤولية جماعية تضامنية للفكرة الملهمة للانبعاث الحضاري.

ثانيا، سلاسل الأحداث وأنماطها: هل آن أوان هذا الانتقال الحضاري؟

هذا هو السؤال المحوري الذي يُطرح الآن.. وهل هي لحظة التغيير العميق المأمول؟ الإجابة تتوقف على تحقق مقومات واقعية تُحيي المكونات الحضارية، تنطلق بعملية تغيير جذري بعمق حضاري. ولهذا المسعى متطلبات لا تتم في تتابع زمني بسيط، بل عبر مراحل شرطية تتناسب مع متطلبات التهيئة والإعداد التي تتطلبها مقومات التغيير العميق المأمول. وهذا يرتبط بالمراحل الشرطية لعملية الانتقال؛ تُعرف أربع مراحل شرطية رئيسة لعملية الانتقال، وهي متداخلة ومتشابكة، ويتم تصنيفها وفرزها على أساس تحقق شروطها، لا على أساس حقب زمنية بسيطة:

1. مرحلة استهلال صعود الانبعاث وصدارته.

2. مرحلة تقوية مرتكزات الانبعاث.

3. مرحلة تفعيل وتحصين مشروع الانتقال.

4. مرحلة بدء الانتقال الحضاري ومسيرته.

تتم عملية الانتقال إذا عبر مراحل شرطية متداخلة، لا يُقصد بها التتابع الزمني البسيط، بل مراحل تُفرز شروطها وتُصنّف حسب تحقق تلك الشروط. المراحل الأربع المقترحة هي: بدء المسيرة، وتقوية مرتكزات الانتقال وتحصينها، وتفعيل المشروع وصدارته، واستهلال صعود الانبعاث.

تتم عملية الانتقال إذا عبر مراحل شرطية متداخلة، لا يُقصد بها التتابع الزمني البسيط، بل مراحل تُفرز شروطها وتُصنّف حسب تحقق تلك الشروط

مرحلة بدء المسيرة هي مرحلة خيارات مُرشّدة بفقه الرشد، وشروطها التعريفية ثلاثة رئيسة: تطور عجز الحلول الجزئية إلى خذلان للأمة (مع وعي متصاعد بأن هذا الخذلان مرتبط بأوضاع دينية فيها تفريط وهجمة)، وبروز رؤية الانبعاث الحضاري والتشكيلة الفريدة الحاملة لها، وتبلور ملامح واضحة لمسارات العمل المطلوب.

مرحلة تقوية مرتكزات الانتقال وتحصينها تأتي متداخلة مع مرحلة البدء، والأولوية فيها هي السعي لاكتساب المُمَكِّنَات لتنزيل الرؤية على الواقع. وتتضمن أولويات تأسيس التشكيلة الفريدة، وأولويات البناء (التي تتطلب المزاوجة الحية بين المعيار الديني والوصف الاجتماعي الإنساني والتطبيق العملي)، وأولويات التدافع الشامل (الناعم والخشن)، وأولويات علاج التفريط والتحرر من التبعية واستيعاب اللحظة. ومن ثم فإنه من أهم ملامح الانتقال الحضاري؛ أنه يتميز بضرورة تغيير جوهري في الكتل والمكونات الرئيسة، والخصائص، والسلوك، والأحوال، والموازين. ويُطلب اجتهاد فكري لتصور انتقال حضاري ممكن وشامل لكل التشكيلات الحضارية، ويتضمن ذلك تنويعا للكتلة الرئيسة التي تمر بتغيير جوهري.

مرحلة تفعيل المشروع وصدارته، إذ يجب أن تستفيد البنية الفكرية والتنظيمية والحركية من مزايا المراحل السابقة مع تجاوز إشكالاتها، خاصة إشكالات التماهي التنظيمي والمعرفي مع التجربة الحضارية الغربية. وينبغي أن تركز على المزاوجة الحية بين المعيش اليومي (الاجتماعي والإنساني) والدين والوصف والعمل التطبيقي. يُفضل أن تتشكل منصات تنظيمية متعددة ومتنوعة الخصائص (محلية، فوق محلية، فكرية، وظيفية)، تعمل في ساحات الواقع الفعلي والعالم الموازي (السيبراني)، وتقوم بوظائف مختلفة مثل بناء الوعي، وتبادل الخبرات، والفعل المشترك المنسق. إن النجاح في هذا المسعى يعتمد على عمق وقوة الفكرة الملهمة، والقدرة على تبسيطها، وتنويع تطبيقها على مختلف الأوضاع الواقعية للأمة والإنسانية. وتشمل مراحل تشكل البنية ظهور ونشاط قادة الفكر والحركة، وانتشار الوعي بالفكرة، وتأسيس نويات صلبة تحمل الفكرة، وإبداع تجليات واقعية لها، وتماسك كتلة حرجة قادرة على إنفاذ التغيير في مساحات الحياة المتنوعة.

مرحلة بدء الانتقال الحضاري ومسيرته: يتشكل مشروع الانبعاث الحضاري عبر مراحل متعددة ومتداخلة تؤدي إلى بناء هيكله الفكري والتنظيمي والحركي المناسب:

1. ملكية الفكرة والقيادة: ملكية الفكرة وتطويرها وتطبيقها هي مسؤولية جماعية تضامنية تقع على عاتق القوى الفاعلة التي تنتدب نفسها لذلك. لا يوجد موقع مركزي أو قيادة تحتكر عملية تطوير الفكرة وتطبيقها، بل يُتوقع أن تتعدد وتتنوع مداخل ومواقع تنزيل الفكرة وأشكالها.

2. الفكر الحاكم: يرتكز الفكر الحاكم على مزاوجة حية بين المعياري (الديني) والوصفي (الإنساني الاجتماعي)، والتطبيقي العملي.

3. التشكل والمسير: تبدأ هذه المراحل بظهور قادة فكر ونشاط وحركة يعملون على بلورة وتنزيل الفكرة، والانتشار الواعي للفكرة بين أبناء الأمة، وتأسيس نويات صلبة، ثم تكوين كتل حرجة قادرة على إنفاذ التغييرات في مساحات الحياة المتنوعة. يُعدّ التفاف الحواضن الشعبية حول فكرة الانبعاث وحملتها منطلقا أساسيا.

ثالثا، السلوك والأداء: الممكنات المعززة للانتقال

لتعزيز عملية الانتقال الحضاري، يجب تفعيل مجموعة من المُمَكِّنَات:

1. تماسك حواضن عطاء أماكن: الاستفادة من تنوع الأماكن وعطاءاتها وإملاءاتها (سواء كانت مناطق ذات جذور تاريخية عميقة، أو مناطق تجمعات مهاجرة، أو مواضع ثروات خاصة، أو ميادين جهادية فريدة) عبر قراءة واعية لمحددات تلك الأماكن، وخصائصها التاريخية، والجغرافية، والاجتماعية.

2. إبداع أدائيات: ابتكار وتصميم وتشغيل أنظمة وهيكليات وآليات جديدة ومفيدة في مجالات حيوية متنوعة، تشمل التواصل الكثيف والمركز أو الواسع، وتنظيم المجموعات، وتجميع المعلومات، والبناء، والتدافع.

لبدء هذا الانتقال الحضاري، يجب أن يتبلور التعريف الجديد للمهمة الدينية الأساسية للأمة، وأن تصعد وتنشط تشكيلة فريدة من القوى الفاعلة التي تتصدى لأعباء إنفاذ هذا التعريف الجديد، على أن تتوفر لهذه القوى ممكنات تستعين بها في مسعاها للتغيير

3. إتاحة موارد: توفير الموارد البشرية والمادية اللازمة للقيام بالمهام التأسيسية المتعلقة ببلورة وتنزيل التعريف الجديد للمهمة الدينية للأمة.

رابعا، الخصائص والسياقات الواقعية والديناميات المحفزة

يتم تتبع مدى تهيئة سياقات الحياة الإنسانية للانتقال الحضاري من منظورين متكاملين ومتداخلين. هذه السياقات تنقسم إلى ثلاث نطاقات:

1. سياق الغرب (الآخر): الذي يكرس أوضاع هيمنة حضارية لم يسبق لها مثيل.

2. سياق الأمة: الذي يتميز بأوضاع حرجة، مثل تفكك الروابط الإنسانية، وفرض تعريفات شائهة للدين، وتصاعد العدوان على فلسطين، وقمع طموحات الشعوب نحو الحرية والكرامة، وتفاقم دوامات الفشل الدولتي والاجتماعي.

3. سياق الإنسانية كلها: النطاق الأوسع.

دور المحفزات: تنشط عمليات الانتقال الحضاري وتستنفر روادها من خلال "مُحفِّزَات" تعمل بمثابة أحداث استثنائية أو جسام. هذه الأحداث قد تكون مفاجئة أو تراكمية، وتكشف بشكل مكثف عن أوضاع بنيوية عميقة الجذور كانت غائبة عن وعي عامة الناس. تستنفر هذه الأحداث القوى الفاعلة، خاصة في المراحل الأولى للانتقال. من أمثلة هذه المحفزات، المواقف الاستعمارية الواضحة والصلبة، أو تكتل الكتلة الحضارية الغربية، التي تكشف عن الصدام الوجودي والحضاري مع الأمة، وتفضح القيم الحقيقية الكامنة في الحضارة السائدة وعمق عدائها لمقدسات الأمة وإنسانية الإنسان.

ومن خلال ذلك تتولد رؤية متكاملة لنموذج إنسان الانتقال الحضاري ومراحل بَدْء مسيرته؛ إذ يقوم هذا المسعى على تفعيل وتطوير ثنائية الواقع والفعل، وهي الثنائية التي تُلزم الإنسان الساعي إلى الرشد بأن يدرك الواقع المتعين، وأن يُطلق اليقين اللازم بإطلاق المشيئة، مع الوعي بحدود الأدوار. ولبدء هذا الانتقال الحضاري، يجب أن يتبلور التعريف الجديد للمهمة الدينية الأساسية للأمة، وأن تصعد وتنشط تشكيلة فريدة من القوى الفاعلة التي تتصدى لأعباء إنفاذ هذا التعريف الجديد، على أن تتوفر لهذه القوى ممكنات تستعين بها في مسعاها للتغيير. هكذا تبدو مشاتل التغيير جامعة وناظمة على ثنائيات تبدو متناقضة؛ وإذ هي في الرؤية الإسلامية من خلال الرؤي التدافعية الرحبة والناهضة، والرؤية الاستخلافية والعمرانية متراحمة متكاملة.

x.com/Saif_abdelfatah
0
التعليقات (0)