من الأهمية
بمكان ونحن بصدد الحديث عن توجيه البحوث لخدمة الأمة أن نسترجع المعاني التي تطلق على
تلك
العلوم والبحث فيها "علوم الأمة"، لارتباطها بقضاياها وتحدياتها، و"علوم
العمران" ارتباطا بالكونية الإنسانية واستخلافها بقاء وارتقاء ونماء؛ إذ تعتبر
الأمة هي المجال الحيوي لإرساء قواعد المثالية وبلوغ القيم التي تشكل أهم مقاصدها،
كما أنها تعبير عن قمة التجانس الإدراكي والعقيدي والتأكيد على الجانب المعنوي والفكري.
إن كل ذلك يعني ضمن ما يعني أن نجعل من الأمة فاعلا حاضرا وحضاريا الأصل فيه الحضور
والشهود لا الغياب والمغيب.
الأمة
وفق هذا التصور هي الفاعل الحضاري، فإذا أردنا أن نجعل من الفعل الحضاري "وحدة
تحليل" فإن الأمة هي أهم شرط للفاعلية التحليلية لمثل هذه الوحدة. هذا التصور
لا بد أن يولد "حالة
بحثية" تتيح نموذج ينتج رؤية كلية للعالم الذي حولنا،
وإمكانات التفاعل معه والفاعلية فيه؛ رؤية تحرك أصول إسهام النظام المعرفي الإسلامي
في إطار ما يولده من نظرية "للوجود"، ونظرية "للقيم"، ونظرية "للمعرفة"
على تفاعل فيما بينهما، تحاول أن تسير مع عناصر تفعيلها وتشغيلها في إدراك الحالة العالمية
وحال الأمة والظواهر المرتبطة بهما.
إدراك الذات وقدراتها وإمكانات تعظيمها؛ وعي يتحول إلى سعي، يبدأ من وعي "الذات" إلى وعي "الغير" وإلى وعي "الموقف الحضاري" بكليته وإمكانات الفاعلية والحضور فيه
إدراك
الذات وقدراتها وإمكانات تعظيمها؛ وعي يتحول إلى سعي، يبدأ من وعي "الذات"
إلى وعي "الغير" وإلى وعي "الموقف الحضاري" بكليته وإمكانات الفاعلية
والحضور فيه، إنها الأمة القطب كما عبرت عنها بعمق الأستاذة الدكتورة منى أبو
الفضل في كتابها العميق "الأمة القطب: نحو تأصيل منهاجي لمفهوم الأمة في الإسلام"، وهو ما يحدد برنامجا بحثيا يتوافق وأصول فكرة الأمة الجامعة "في بناء
الحضارة
الفاعلة" بما يحقق أصول الشهود الحضاري، وبما يعني دراسة التحديات والكشف عن جذورها
ودراسة الواقع في ضوء عناصر الذاكرة التاريخية والحضارية للأمة، ودراسة الواقع في إطار
تدبر حال الأمة وإمكانياتها المستقبلية في الفاعلية في عالم شديد التشابك سريع التطور
والتغيير. الأمة وبما تمثله من قيمة وتضطلع به من وظيفة تشكل الفاعل الحضاري الأساسي، وفق عناصر الجامعية التي تشكل جوهر المفهوم، وعناصر تشكيل
الأمة ومقتضياته، وعناصر فاعلية الأمة في الاستمرارية والقدرة والتأثير والقيام بالأدوار
المنوطة بها.
كل هذا
بدوره يفرض عناصر بحثية ومعرفية تهدف إلى البحث في مستويات الفاعلية للأمة وآليات تحقيق
هذه الفاعلية، والإمكانات والمعوقات، وتجليات الفاعلية من المجالات النظامية والمؤسسية
والعلائقية. ويشكل "حديث القصعة والكثرة الغثائية"، إشارة إلى عناصر تفسيرية
يحملها الحديث من الأهمية بمكان في البحث في مناط الفاعلية للأمة، بل ربما تحدد أصول
مناطق البحث، وموضوعاته التي تسهم في فهم واقع الأمة وتحدياتها وإمكانات فاعليتها في
ظل وضع التعدد في الوحدات والكيانات.
والأمة
بما تعنيه من أصل "الأم" و"القصد" في مبناها اللغوي تحرك إشكالات
بحثية من نوع معين تتوجه إليها بالدراسة والبحث، إذ يتفرع عن معاني "الأم"
القصد وتحديد وجهة البحث، ومنهج النظر فيه، وفهم أصول التعامل مع قضايا الأمة ومؤسساتها،
ومنهج التفاعل مع الموضوعات المرتبطة بكيان الأمة وإشكالاتها.
هذه
الإشكالات وغيرها ترتبط بالأمة ولا تنفصل عن مهمة ارتقاء العالم والإنسانية؛ بما تقوم
به من مراجعات نقدية منهجية تتسم بالعدل والاستقامة لكافة القابليات والإمكانات التي
مكنت "النظام الغربي" من أن يبلور بواسطتها صورة عن ذاته، ويخلق بشكل مواز
صورة مشوهة للآخر لتأكيد ذاته، ثم تبيان محاولته لرسم "مصير متعال" له ليجعل
من نفسه "محورا" بل "مرجعا" تاريخيا عالميا وحيدا في معالجة مجتمعات
"ما وراء البحار"، وذلك من خلال منظومات فكرية متوخيا من ورائها إجماعا نسبيا
على رسالته التبشيرية "التحضيرية"، لكي يتسنى له تصديرها من خلال إغواء وتنشئة
نخب في المجتمعات الأخرى.. لتكون معابر لبسط سيطرته وترسيخها في جسم هذه المجتمعات.
والحقيقة
أن ما يقصده النظام الغربي، في استراتيجيته هذه، هو تحويل تواريخ الشعوب في الأطراف
إلى أصفار على هامش الحضارة. فبدلا من النظر إلى ثقافات ما وراء البحار من زاوية تعبيرها
عن ذاتها صار الاهتمام بها مرهونا، لسبب أو لآخر، بقدر اندماجها في دائرة السوق العالمية
من الموقع الأدنى المتمم لحاجات إنتاجية للمركز الأوروبي والحضارة الغربية الغالبة.
بناء على
ما تقدم؛ فإن أية مقاربة لمكونات الصرح الأيديولوجي للنظام الغربي تستدعي التعرف على
المفاهيم والأدوات الإجرائية التي اتبعها بدءا من عصر النهضة الأوروبية؛ إنها نظرة
المركزية الغربية.
بيد أن
هذه النشاطات لم تقم في المجتمع الأوروبي، على سيطرة الإنسان على الطبيعة وإبداع
مناهج
جديدة للإنتاج وبناء الآلات والحصول على مستوى صحي لائق وحسب، إنما أقيمت أيضا على
مبادئ سيطرة البشر بعضهم على بعض، وذلك عبر شبكة مؤسسية من المعاني الجيوسياسية والاقتصادية
والأيدلوجية؛ ليس أمامها إلا الامتثال لهجمة التحليل "العلمي" وأدواته المفاهيمية
المسبقة الصنع كي يضمّنها إسقاطاته؛ حينئذ تصبح قابلة للفهم إنسانيا وتاريخيا. ضمن
هذا السياق تبدو لنا أهمية مقولة توجيه البحوث بصدد "علوم الأمة" و"علوم
العمران" للاستجابة لتحديات مركبة ترتبط بعالم:
● الذاكرة
الحضارية (ودراسات التراث والفكر الإسلامي).
● المعضلة
المنهجية (ودراسات المنهجية الإسلامية).
● والنظام
المفاهيمي (وعمليات بناء المفاهيم والجهاز المفاهيمي).
وهذا أمر
يحدد أصول استخدام "البوصلة البحثية " في هذا المقام.
الأمة الإسلامية اليوم ساحة من ساحات الحيوية النهضوية الحضارية، ولهذا فمن الطبيعي أن تعيش لحظة الانتكاسة والضعف والقهر، وأن تعيش لحظة التفاعل مع الأزمة ولحظة الإعداد لمواجهتها ولحظة الإرهاص النهضوي ولحظة ما بعد النهوض والتحول الحضاري الكبير. إن معظم المشاكل التي تواجهها عمليات النهوض اليوم هي منعطفات إنضاج للوعي واستمداد للخبرة وتفاعل مع الأحداث وإعادة توجيه للمسيرة والأفكار
بين هذا
وذاك تتم الترجمة المؤسسية لذلك النهج لعناصر وضع البرنامج البحثي ومسارات العمل، فتكمن
في الجامعات الحضارية وعلى وجه الخصوص كليات الشريعة، وكذا مراكز البحوث التي تشكل
رافعة حضارية وبحثية تتمثل في "مستودعات الأفكار" والقدرة على تأسيس خطة
استراتيجية حضارية بحثية مستقبلية، أما الترجمة التي تتعلق ببرنامج العمل البحثي فكأنما
يتوجه إلى أولويات مهمة بصدد القضايا والمداخل والأدوات المنهجية وإحياء الذاكرة الحضارية،
وليس القطيعة معها، ضمن عمل منهجي ومعرفي منظم.
كان
من أهم التبنيات المعرفية لمشروع الانبعاث الحضاري وتأسيس قاعدته في المنظور
والمنهج؛ المنظور الحضاري الذي ينطلق من فكر متجذر في إطار مرجعي معياري، ومنضبط بمنهج
موضوعي متناسق، وهو خطاب واقعي عملي يواجه مشكلات الإنسان والحضارة، كما أنه فكر يمتد
شمولا باتجاه استيعاب الآخرين عالميّا وإنسانيّا. وبعبارة أخرى، لكي تؤدي الأمة دورها
الحضاري العالمي حاملة لأمانة الإظهار العالمي للدين؛ ينبغي أن يرتفع وعيها للعلم والفكر
والإنسان والحضارة إلى مستوى عصر "العالمية" و"الحضارة الشمولية"
بأدواتها المنهجية والمعرفية والثقافية والتكنو إلكترونية، هذا الارتفاع يعني التحول
الكبير في الرؤية والمنهج والمشروع الحضاري.
إن نوعية
المشكلة الراهنة تستدعي وجود رؤية ومنهج نوعيّ لإدراك طبيعة ووظيفة العلم والفكر والإنسان
والحضارة في عصر "العالمية"، إنها المواقف الحضارية حينما تتسم بالشمول،
وتتحلَّى بكل فاعلياتها، وفي مقامها تأخذ "المقاومة" مكانها ومكانتها.
إن الأمة
الإسلامية اليوم ساحة من ساحات الحيوية النهضوية الحضارية، ولهذا فمن الطبيعي أن تعيش
لحظة الانتكاسة والضعف والقهر، وأن تعيش لحظة التفاعل مع الأزمة ولحظة الإعداد لمواجهتها
ولحظة الإرهاص النهضوي ولحظة ما بعد النهوض والتحول الحضاري الكبير. إن معظم المشاكل
التي تواجهها عمليات النهوض اليوم هي منعطفات إنضاج للوعي واستمداد للخبرة وتفاعل مع
الأحداث وإعادة توجيه للمسيرة والأفكار، وهي استجابة تدل على معاني النهوض، والمدافعة،
والممانعة؛ والمقاومة، والوعي بعدم العمل بتبعية تحت سقف المشروع الغربي بكل
تضميناته الفكرية والثقافية والمعرفية. إننا أمام مشاتل معرفية وفكرية واجب
التنبيه والتأكيد عليها في عمليات التغيير الحضاري؛ تتبنى ثلاثية الوحي والوعي
والسعي.
x.com/Saif_abdelfatah