يطرح مشروع
الانبعاث الحضاري كما يقدمه الدكتور حسين القزاز؛ مجموعة من الافتراضات والحجج
المهمة ومتحصلات كنتيجة لتلك المقدمات يعقبها سؤال أُتبع به سؤال آخر. السؤال
الصحيح كما يقولون نصف الإجابة؛ واستراتيجية السؤال من أهم الاستراتيجيات في
المشاريع الحضارية، وعلى هذا قدم صاحب المشروع مقاربة تأسيسية وافتراضات كلية، وحججا
كلية وفرعية؛ نحرص على العودة إليها من مصدرها المباشر إيمانا بالأمانة العلمية في
النقل حتى لا نحمل المشروع بصياغة منا قد لا تعبر عن حقيقته.
* مقاربة
تأسيسية حول اختيار القوى الفاعلة: "لم تختر القوى الفاعلة إذا أن تواجه
هذا المشروع من خلال تحديه المباشر والإصرار على تأسيس مقدرات حياة على نماذج
إسلامية خالصة، وإنما اختارت أن تعمل تحت سقف تلك البنى الحضارية الوافدة، وتمارس
دورها المقاوم والإحيائي من ذلك الموقع".
التجربة الحضارية الإسلامية الأصيلة في بلادنا والتي أصابها الوهن بعد عشرة قرون من الازدهار، أصابها تفريط في مراحل مختلفة من مسيرتها الطويلة في مقومات أساسية من مقومات تماسك أي تجربة حضارية إسلامية، كما ميزها حرص على مقومات أخرى من مقومات التماسك والاستمرار والحيوية تلك
* افتراض
أن الأمة ومواجهة المشروع الاستعماري: "واجهت الأمة هذا
المشروع الاستعماري (الاستخرابي في حقيقته) بمزيج من المقاومة والاستيعاب والتحديث،
في عمليات وتطورات تاريخية مركبة ليس هنا مجال الإفاضة فيها. يكفي فقط تقرير أن
الحالة الحضارية الراهنة لأمتنا، والتي تمخضت عن هذه العمليات المركبة، هي في
جوهرها حالة أمة مستعمَرة: أمة واقعة تحت هيمنة مشروع استعماري هو (كأي منظومة
تحكم وسيطرة نشطة) في حالة تطور مستمر: ينتقل من مرحلة إلى مرحلة ومن شكل إلى شكل
ومن منهج إلى منهج ومن إنجازات إلى إنجازات ومن مرتكزات هيمنة إلى مرتكزات أخرى".
*
افتراض النماذج الحضارية العلمانية ومواجهة والنماذج الحضارية المتجذرة في الأمة: "أن
النماذج الحضارية العلمانية التي ترتكز عليها
الحضارة الغربية ويتغذى منها ذلك
الزحف الاستعماري، لم تفلح في إزاحة النماذج الحضارية المتجذرة في أمتنا، رغم
التراجع الحضاري. من الدقيق إذن أن نقول إن الوضعية الحضارية في بلادنا هي وضعية
مزدوجة ملتبسة، يتدافع فيها نوعان من النماذج الحضارية متناقضان في جذورهما
العقدية وحمولاتهما الفلسفية. بقدر قليل من التأمل الفكري والملاحظة الواقعية ندرك
أن هذا واقع مربك أبعد ما يكون عن أن يوفر للأمة سلاما أو استقرارا أو نماء؛ لسنا
إذن شعوبا متحررة كما يحب بعضنا أن يفكر أحيانا".
* الحجة
الرئيسية مراجعة تلك المقاربة جذريا: "أن قوى الإحياء الإسلامي
تحتاج أن تراجع تلك المقاربة بشكل جذري، وتتحرك منها إلى مقاربة تتبنى الإصرار على
تأسيس حالة حضارية جديدة في أمتنا وعالمنا مستندة إلى نماذج إسلامية خالصة".
* حجة
فرعية حول الوضعيات والنماذج الحضارية: "الاتكاء على مفاهيم ونماذج
تحليلية متعلقة بالوضعيات والنماذج الحضارية. إذ تنطلق النماذج الحضارية وتتشكل
أساسا بمعلومية ثوابت عقدية وقيمية وفكرية يتبناها أي
مجتمع، وتعكس الطرق والمداخل
الفريدة التي يقارب بها أبناء ذلك المجتمع سياقاتهم المعقدة. يمكن النظر للنماذج
الحضارية إذن في رحاب هذا التصور بأنها مساحة وسيطة بين الثوابت العقدية وبين
تجليات الحياة الإنسانية في أبعادها المختلفة: مساحة وسيطة تلعب فيها إدراكات
الناس لملامح تلك السياقات المعقدة المتغيرة المتنوعة التي يعيشونها أدوارا مهمة
في تفسيرهم لتلك الثوابت العقدية وتمثلهم لها. إذن هي مساحة وسيطة ديناميكية،
يشكلها تفاعل الثابت العقدي مع المتغير السياقي المدرك".
* "حجة
فرعية أخرى تفيد في معرفة هذه النماذج الحضارية في فهم قواسم مشتركة
وفروق مهمة بين المجتمعات الإنسانية، كما أنها تعيننا في فهم وتفسير التطورات التي
تطرأ على حياة الناس والمجتمعات عبر الزمن".
* حجة
تعريفية تتعلق بـ"الوضعيات الحضارية": "هي تلك الحالات المركبة
التي تتشكل وتتطور من تفاعلات تخص كل جانب من جوانب الحياة الأساسية لأي مجتمع،
كما تخص تداخل تلك الجوانب وعلاقاتها المتداخلة المتشكلة والمتأثرة بشكل أساسي
بالنماذج الحضارية السائدة في لحظة ما من حياة ذلك المجتمع. هكذا تشير الوضعيات
الحضارية إلى ملامح وتطورات متعلقة بكل من الجوانب الأساسية".
* حجة
فرعية أخرى تتعلق بـ"خطورة النماذج الحضارية: "أوجه سلوك وأنماط حياة
وقرارات فردية وجماعية يوجِّه بها الناس موارد مجتمعاتهم ويحددون كيفيات إنفاق
أوقاتهم وأموالهم. تكمن أهمية وخطورة النماذج الحضارية في أن الناس في أي مجتمع
ينطلقون منها ولا يُسائلونها، كما لو كان الإنسان والمجتمع يتحرك بقوة الدفع
الذاتي دون أن يفكر فيما يحركه".
* حجة
علائقية تفاعلية: "إن الوضعية الحضارية في بلادنا هي نتاج تفاعل
تجربتين حضاريتين. التجربة الحضارية الإسلامية الأصيلة في بلادنا والتي أصابها
الوهن بعد عشرة قرون من الازدهار، أصابها تفريط في مراحل مختلفة من مسيرتها
الطويلة في مقومات أساسية من مقومات تماسك أي تجربة حضارية إسلامية، كما ميزها حرص
على مقومات أخرى من مقومات التماسك والاستمرار والحيوية تلك".
"والتجربة
الحضارية التي بنيت على نموذج حضاري علماني بالأساس؛ تجربة حضارية صاعدة تشكلت
ملامحها الأساسية في معية تطورات تاريخية، ثم تقدمت وصعدت وأخذ أهلها بأسباب
البناء والتماسك والهيمنة والصعود بمعلومية معطيات ذلك النموذج الحضاري الذي تبنته".
* حجة
موقفية تتعلق بوعي المشروع الاستعماري: "المشروع الاستعماري بالمناسبة
مشروع واعٍ جدا (منذ اليوم الأول) للأبعاد الحضارية لتلك المواجهة التي يخوضها مع
شعوبنا. ولمن أحب أن يراجع هذا الأمر أن يعود إلى تراث الاستشراق المصاحب للمشروع
الاستعماري من بداياته. ندافع اليوم إذن في ظل هذه الحركة الاستعمارية المتحركة،
ندافع هيمنة نموذج علماني حثيث الجهد في نقض عرى النموذج الإسلامي الأصيل في
بلادنا، وتفكيك ما تبقى من منطلقاته وقيمه وبنيته وتجلياته في جوانب الحياة كلها".
* حجة
موقفية: "كان الخيار الحاكم (صريحا أو ضمنيا) لحركة التيارات
الأساسية في القوى الفاعلة في الأمة إزاء هذه الوضعية الحضارية، خصوصا في العقود
القليلة السابقة على تفجر الثورات العربية؛ إذ اختارت تلك القوى الفاعلة العمل تحت
مظلة هذا النموذج العلماني الزاحف، مع محاولة تثبيت الأمة على دينها في مساحات
الحركة الممكنة (المعتقدات والقيم الأساسية، السلوك الفردي والاجتماعي الأساسي،
التذكير بالقضايا الكبرى والرابطة الأممية.. إلخ)".
* حجة
حول البديل الحضاري: "أن تلك التيارات الأساسية، وفي القلب منها الحركة
الإسلامية بمدارسها، لم تَتَحَدَّ بنية المعرفة ولا بنية الثقافة ولا فلسفة وهياكل
التعليم ولا أنماط العمران ولا فلسفة وبنية الدول القائمة ولا الأنظمة الاقتصادية
والإدارية والتقنية.. إلخ؛ التي فرضها المشروع الاستعماري. لم تسع لأن تقدم بديلا
حضاريا إسلاميا مستقلا مغايرا لهذه الفلسفة وتلك البنية المفروضة على الأمة من
مستعمريها، بل سعت في الأساس لمحاولة إبطاء زحف تلك الفلسفة والبنية وتخفيف آثار
ذلك الزحف على هوية الأمة وعلى تمسك أهلها بمعتقداتهم وقيمهم الأساسية وأنماط
تفكيرهم وسلوكهم؛ في كل المساحات التي تسنى لها العمل فيها".
* حجة
أخرى حول الحلول الجزئية: "ظهر هذا السعي في تلك المسارات
والحلول الجزئية التي نشطت الحركة الإسلامية في تقديمها، بمعلومية وفي رحاب
الفلسفة والبنية التي فرضها المشروع الاستعماري والنموذج الحضاري الذي استند إليه
(مدارس إسلامية تعمل تحت مظلة أنظمة التعليم الرسمي بنفس فلسفتها ومناهجها الدراسية
وهيكلتها، ولكنها تقدم جرعات مختلفة من المواد الدينية وتتبنى مستهدفات تربوية
منحازة للقيم والممارسات الدينية: مصارف إسلامية تقدم معاملات لا ربوية للحريصين
على تجنب الربا في تعاملاتهم الشخصية تعمل في إطار منظومات اقتصادية ومالية
رأسمالية صرفة لا علاقة لها بفلسفة ومستهدفات وأحكام المال في الإسلام، أحزاب
وتكتلات سياسية تضم القوى ذات المشارب الإسلامية تعمل تحت سقف سياسي تحدده فلسفة
وبنية الدول المستبدة التي تؤدي أدوارا متبادلة متكاملة مع القوى الاستعمارية
الخارجية.. إلخ)".
* حجة
تفسيرية: "كان هذا نوعا من التكيف والخيار الاستراتيجي الذي حكمته
في تقديرنا ثلاث مجموعات من العوامل الأساسية: عوامل متعلقة بمستوى التهديد الذي
يسببه النموذج الحضاري الزاحف على الأمة ودينها وهويتها؛ كما تدركه تلك القوى
الفاعلة وتخبره على الأرض، عوامل متعلقة بمنابع وأحجام الطاقة اللازمة للدخول في
مثل هذه المواجهات الحضارية والمطلوبة لتأسيس نموذج حضاري إسلامي مستقل تنطلق في
رحابه تجربة حضارية إسلامية جديدة، عوامل متعلقة بموازين القوى بين الأمة وقواها
الفاعلة من ناحية والمشروع الاستعماري بمراكزه وأطرافه من ناحية أخرى. باختصار،
كان تقدير التيارات الأساسية في القوى الفاعلة في الأمة على امتداد العقود الماضية
لتلك المجموعات الثلاث من العوامل؛ أنها تقود إلى خيار استراتيجي يعمل على إبطاء
النموذج العلماني الزاحف، ولكن لا يتحداه بشكل مباشر".
تحد يتطلب عطاءات فكرية وحركية وعملية عميقة وعديدة، وحوارات وتجارب وممارسات متنوعة
* حجة
نتيجة أساسية تتعلق باللحظة الفارقة والخيار المختلف: "آن أوان تبني خيار
مختلف فاللحظة الفارقة التي تعيشها الأمة الآن تدعونا لموقف مختلف. والتهديد تطور
وزحف وبات يهدد أساسيات التدين والهوية ويهدد معها بمصادرة كاملة للحالة الإسلامية
الشعبية التي ارتكزت عليها تلك المسارات والحلول الجزئية التي انتهجتها الحركات
الإسلامية في سعيها لإبطاء الزحف العلماني. والثورات العربية في موجاتها المتلاحقة،
وحالات التدافع والاضطراب والتحول والترقب التي تعيشها الأمة والعالم، تشهد على
منابع ومستويات للطاقة الراغبة والقادرة على إحداث
تغييرات كبرى".
* السؤال الواجب والمطلوب: سؤال مختلف يتطلب إجابات جديدة:
"هل آن أوان أن تستأنف الأمة مسيرتها الحضارية بأن تؤسس نموذجها الحضاري على
مرجعيتها الدينية الخالصة؟"، ويلحق به سؤال آخر يتعلق بالكيفية: "كيف
يمكن استئناف تلك المسيرة (أو بالأدق بدء مسيرة جديدة) وبناء نموذج حضاري إسلامي
يحكم حياة الأمة، بالاستفادة من طاقة التغيير الهائلة، وبما يتعامل مع الضعف
المتراكم والخلل الخطير في موازين القوى الحضارية؟".
"لا
شك أن هذا تحدٍ هائل؛ وهو التحدي الجوهري الأساسي الذي تتحدد بناء على الإجابات
التي تقدمها القوى الحية في الأمة عليه، تتحدد مواقعها وأدوارها في خدمة أمتها
وإقامة دينها في هذه اللحظة الفارقة. وهو تحد يتطلب عطاءات فكرية وحركية وعملية
عميقة وعديدة، وحوارات وتجارب وممارسات متنوعة"؛ ولهذا حديث آخر
بحول الله.
x.com/Saif_abdelfatah