شهدنا خلال الأيام الأخيرة فصلا جديدا من الحروب العبثية في
سوريا، والتي أدت
إلى سقوط أكثر من ألف ضحية وتدمير المنازل والممتلكات ودخول العدو الإسرائيلي على
خط المواجهات بحجة حماية طائفة الموحدين الدروز في مدينة السويداء، هذه
الحرب
العبثية هي امتداد لحروب عبثية أخرى عانى ويعاني منها العالم
العربي والإسلامي،
سواء داخل بعض الدولة كما جرى ويجري في اليمن وليبيا والعراق والصومال ولبنان
والسودان، أو فيما بينها كما جرى سابقا بين العراق وإيران، أو كما جرى بين بعض دول
الخليج، أو من خلال الحرب على اليمن، أو غيرها من الحروب العبثية التي عشناها
ونعيشها إلى اليوم.
وكل هذه الحروب تؤكد الحاجة إلى قيام الدولة الوطنية القائمة على أسس
العدالة والديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان، والتعاون والتكامل بين دول المنطقة
بدل الصراع على النفوذ وإفساح المجال أمام العدو الإسرائيلي والدول الأجنبية، وفي
مقدمتها أمريكا، للتدخل في شؤون الدول والسيطرة أو الهيمنة عليها بأشكال متعددة،
بحيث يستغل الأعداء الأخطاء التي تُرتكب لتبرير تدخلهم وتعزيز نفوذهم.
إذا كانت بعض الشعوب العربية قد نجحت في إسقاط الأنظمة الفاسدة والديكتاتورية في السنوات العشر الأخيرة، فإن التحدي الأهم هو في كيفية قيام الدولة الوطنية أو دولة المواطنة؛ لأن البديل عن ذلك المزيد من الاقتتال والصراعات
وإذا كانت بعض الشعوب العربية قد نجحت في إسقاط الأنظمة الفاسدة
والديكتاتورية في السنوات العشر الأخيرة، فإن التحدي الأهم هو في كيفية قيام
الدولة الوطنية أو دولة المواطنة؛ لأن البديل عن ذلك المزيد من الاقتتال والصراعات
لأسباب معلنة أو مجهولة، والعنوان الوحيد لكل الصراعات ضمان الأمن والحريات
والمشاركة في السلطة.
وقد وعى منتدى التكامل الإقليمي والذي تأسس قبل عدة سنوات في بيروت وضم
عشرات المثقفين والباحثين العرب والأتراك والأكراد والإيرانيين ومن مختلف الطوائف
والمذاهب؛ هذه الازمات التي يواجهها العالم العربي والإسلامي، فدعا إلى وقف الحروب
العبثية والتعاون والتكامل بين دول الإقليم بدل الصراع على النفوذ.
ومن أبرز ما أكده المنتدى في وثائقه الأساسية والتي من من المهم العودة إليها
اليوم؛ أن الحروب في المشرق عبثية ولن يكون من ورائها طائل البتة سوى القتل
الجماعي والدمار والانحلال، كما أثبتت بجلاء، ومرّة بعد مرّة بتكرار مُمل، الحروبُ
الأهلية الإسلامية- الإسلامية طيلة أكثر من ألف سنة، وكما أثبتت حروب العقد الثاني
من القرن الحادي والعشرين، وسيكون مُحتّما في لحظة ما أن يصل الجميع إلى القناعة
بأن
الحوار هو المنقذ الوحيد من ضلال الانتحار الجماعي، تماما كما اكتشف
البروتستانت والكاثوليك الأوروبيون في القرن السابع عشر، حين يمموا وجههم نحو معاهدة
وستفاليا طلبا للنجاة المشتركة بدل الهلاك المشترك، وهي
التي أسست لقيام الدولة الوطنية القائمة على أساس المواطنة.
واليوم وفي ظل الحروب العبثية يجب العمل على استيلاد هذه اللحظة الوطنية لا
انتظار ولادتها، لأن التدخلات الدولية الكثيفة في مجرى الصراع المشرقي، ستعمل دوما
على إيقاد نيرانه كلما بدا أنه بدأ يخمد، وعلى تقوية الطرف الضعيف لدفعه إلى مواصلة
الحرب ضد الطرف الأقوى.
ومن هنا ضرورة إطلاق شعاع نور وأمل يخترق السماء الداكنة في الإقليم، وأن
نحث النخب العقلانية والمُخلصة التركية والإيرانية والكردية والعربية، على وضع
أنموذج فكري- حضاري جديد يدير الظهر للشوفينية القومية والتعصب الديني، ويستند إلى
القيم الروحانية الحضارية المشرقية- الإسلامية، والتكامل الإقليمي الجيو- ثقافي
والجيو- استراتيجي بين دول الإقليم، إضافة إلى العمل المشترك لإنقاذ بيئة المنطقة
من المهالك الوجودية التي تترّبص الدوائر بكل شعوب المنطقة بلا استثناء.
وهذا المشروع ليس سهلا ودونه عقبات خارجية غربية وإسرائيلية ضخمة ومعوقات
داخلية أضخم. لكن، من كان يتصوّر، في المقابل، أن تقوم العدوتان التاريخيتان فرنسا
وألمانيا ليس فقط بانهاء حقبة حروب دامت بينهما عشرات القرون، بل أيضا ببناء أضخم
تنظيم إقليمي في العالم وهو الاتحاد الأوروبي؟ ومن كان يعتقد أن في وسع دول جنوب
شرق آسيا أن تجلس إلى طاولة
في موازاة قيام الدولة الوطنية القائمة على أسس المواطنة، لا بد أن يبدأ الحوار في المنطقة حول مسألة التكامل الإقليمي، والذي سيكون على رأس جدول أعماله الضرورة القصوى لصيانة واحتضان وترقية التنوّع الثقافي والعرقي لكل مكونات الإقليم
الحوار للتباحث حول بناء مستقبل مشترك بينها، وتقترب
من لحظة إقامة هيكلية كونفيدرالية إقليمية بينها كمنظمة شنغهاي؟ بل من كان ليتصوّر
أنه سيكون ممكنا للأعداء التاريخيين الصينيين واليابانيين والكوريين أن يتدارسوا
بناء اتحاد على النمط الأوروبي بينهم؟
إقليم المشرق المتوسطي هو المنطقة الرقم واحد في العالم التي تمتلك كل
مقومات التوحّد الجيو- استراتيجي المتطابق مع جغرافيتها وتاريخها. ومع ذلك فهي
الآن الإقليم الوحيد أيضا في العالم الذي لا يزال يفتقد إلى هيكلية تعاونية إقليمية
ويواجه حروبا داخلية وخارجية.
وللأسف، فإن الكيان الصهيوني هو المستفيد مما يجري، كما النظام العالمي
الغربي، والهدف تقسيم المنطقة إلى دويلات طائفية ومذهبية وتعزيز الهيمنة الغربية
على دول المنطقة.
ولذلك لا خيار لنا اليوم سوى العمل لإحياء القيم المشرقية الإسلامية
والمسيحية، وبلورة الهوية الحضارية والروحانية والتاريخية الجامعة لكل أمم الإقليم،
وبذل جهود حقيقية، فكرية وبحثية، من أجل تحقيق الإصلاح الديني ودعم كل المبادرات
التي أعلنتها العديد من المؤسسات الدينية، خاصة الأزهر الشريف والفاتيكان، بما
يؤمّن ليس فقط قيام دولة المواطنة أو الدولة المدنية في كل من دول الإقليم، بل
يعيد كذلك بث الروح في القيم الروحانية المشرقية الإسلامية والمسيحية القائمة على
وحدة وواحدية كل المخلوقات والكائنات، وكل الكون والوجود.
وفي موازاة قيام الدولة الوطنية القائمة على أسس المواطنة، لا بد أن يبدأ الحوار
في المنطقة حول مسألة التكامل الإقليمي، والذي سيكون على رأس جدول أعماله الضرورة
القصوى لصيانة واحتضان وترقية التنوّع الثقافي والعرقي لكل مكونات الإقليم (من سنة
وشيعة ودروز وأكراد وأمازيغ وبلوش ومسيحيين وعلويين واسماعيليين وكلدان وأيزيدييين
وسريان وأرمن.. الخ)، لأن مثل هذا التنوّع في إطار الوحدة، سيعزز إلى حد كبير وحدة
الإقليم وتماسك النسيج الاجتماعي في كل من دوله. وإن بدء الحوار الهادئ والعقلاني حول التكامل الإقليمي، الذي
سيكون في الواقع إيذانا ببدء اعتراف الجميع بـ"الأعماق الاستراتيجية" لكل
أممه الأربع، سيؤدي أيضا إلى الاعتراف بالإعماق الثقافية- التاريخية لكل الأقليات،
وسيعيد للحضارة المشرقية الإسلامية والمسيحية السمة الكبرى الأهم التي ميزّتها
طيلة التاريخ عن الحضارات الأخرى، وهي قبول التنوّع والتعدد في إطار الوحدة،
والاعتراف بالآخر.
هذا هو الطريق
الاقصر لإنهاء الحروب ومعالجة أسبابها، وإلا فنحن ذاهبون إلى المزيد من الحروب
العبثية والاقتتال الداخلي، ودخول العدو الصهيوني المدعوم أمريكيا على الخط.
فهل نعي ما
ينتظرنا أو نغرق في الحروب والصراعات؟
x.com/kassirkassem