كتاب عربي 21

مقدمات حول مفهوم الانتقال الحضاري.. مشاتل التغيير (36)

سيف الدين عبد الفتاح
"ذروة التفكير بمشروع الانبعاث الحضاري المتكامل"- جيتي
"ذروة التفكير بمشروع الانبعاث الحضاري المتكامل"- جيتي
مفهوم "الانتقال" من أهم المفاهيم التي يمكن الحديث عنها باعتبارها من المفاهيم الرحّالة، والمفاهيم الرحالة هي التي ترتحل من علم إلى علم، أو من فن إلى فن، أو من نمط حضاري إلى نمط حضاري آخر. إذن نحن أمام مفاهيم رحالة من أشكال مختلفة، يمكن أن تأتي من ثقافات مختلفة، ويمكن أن تأتي بين العلوم وبعضها البعض. وسنتعرف على أهمية هذا المفهوم وكونه من المفاهيم الأساسية في العلوم المختلفة، وفي علم النظرية السياسية، خاصة في باب النظرية السياسية التحليلية وباب المفاهيم. أكثر من ذلك، فقد نشأت مجموعة بحثية علمية وأكاديمية بما أسموه علم المراحل الانتقالية (transitology)، تلك التي اهتمت خاصة بدول كانت تابعة للاتحاد السوفييتي في حلف وارسو من دول شرق أوروبا والتي شهدت عمليات تحول نحو الديمقراطية، ثم امتدت في اهتمامها لمناطق أخرى من العالم.

وقد نشأ مفهوم الانتقال في علم النفس، وارتبط بالمرحلة ما بين الطفولة والرشد والنضج، والتي تسمى مرحلة المراهقة؛ فمرحلة المراهقة تسمى مرحلة انتقالية لأنها تنتقل من مرحلة الطفولة إلى مرحلة الرشد والنضج. أيضا أُطلق مفهوم "المرحلة الانتقالية" داخل الأدبيات الاقتصادية، عند الحديث عن مراحل النمو، وفيها مرحلة انتقالية بين مراحل النمو (مثل المراحل الخمس لـ"روستو" وغيرها). كان هذا المفهوم أيضا في الأدبيات السوسيولوجية -خاصة الغربية منها- وكان يسمى "الانتقال المجتمعي"؛ الذي يعبر عن الانتقال من الحال التقليدية أو التخلف إلى حال الحداثة.

يعبّر هذا المفهوم عن مسألة مخصوصة تشير إلى انتقال عالم الأفكار والمعارف النظرية إلى ميدان الواقع في التنزيل والتطبيق، هذا الانتقال الذي يشير إلى فكرة أساسية تنطلق فيما يُسمى المراحل الانتقالية الشرطية الذي لا يعبر بالأساس عن مراحل زمنية، بل يؤصل لمعنى "فقه المرحلة" بكل أبعادها وأعماق تشكلها وتشكيلها

كما يوجد في علم التنمية السياسية وعلم النظم السياسية ما يسمى "التحول الديمقراطي"؛ حيث يتم الحديث عن أن عملية التحول الديمقراطي ترتبط بعملية الانتقال. كما أن الأيديولوجيا أيضا -وليس فقط العلوم- كان فيها مرحلة انتقال، وقد تحدث كل من ماركس ولينين عن مرحلة الانتقال من الدولة ومن المرحلة الاشتراكية إلى المرحلة الشيوعية، باعتبار أن هذه أيضا مرحلة انتقال؛ وقد ظهر مفهوم "المرحلة الانتقالية" في أحد أدبيات لينين الذي تعلق بمقولة "ما العمل؟".

ويأخذ المفهوم في علم السياسة شكلين؛ الشكل الأول هو الشكل الاعتيادي المتعلق بالمراحل الانتقالية في شكل انتخابات وتحول سياسي، والشكل الثاني فيما بعد الثورات. الانتقال إذا يحمل معاني مختلفة عن كل تلك الأمور التي تتبادر إلى الذهن عند الحديث عن عمليات الانتقال؛ مثل الانتقال الديمقراطي والانتقال العسكري أو غيرها. كما تتناول نظرية انتقال المجتمع التقليدي إلى الحداثة (التحديث) لـ"دانيال ليرنر"؛ النظرية مفهومها وافتراضاتها الرئيسة، مثل أن جميع المجتمعات تمر بمراحل تطورية.

كذلك من المهم أن نشير إلى قراءة أخرى للتاريخ في ظل مفهوم حركة التاريخ والانتقال من حال إلى حال ضمن سنن التغيير الكبرى والانتقال عبر حلقات الزمن التاريخ والحاضر والمستقبل؛ بل ينبه البعض إلى مداخل الأزمة والمقارنة كأدوات منهجية تاريخية تسمح ببناء الإطار العام الحاكم لفهم المعنى التاريخي لأزمة النموذج الحضاري القائم، أي فهم مكان الأزمة في التاريخ. وهذه الأداة هي الاستناد إلى مقارنة بين مستويات النشاط البشري لناحية التجريد والتعميم، والانتقالات المعرفية عبر الانتقال اللغوي ومراكز التأثير الحضاري ضمن المعابر الحضارية التي رصدت بين التاريخ.

وتبدو الجغرافيا أول العلوم التي يستدعيها التاريخ فيؤدي إلى فهم زمني وجغرافي مكاني لأشكال التجليات الحضارية، والتفاعلات الحضارية، فتبدو الجغرافيا ومعابر الانتقال، بل وربما تشير إلى الوسائط اللغوية والترجمة في سياقات الانتقال الثقافي والمعرفي. وهذا قد يحيلنا للأطوار الحضارية لدى ابن خلدون التي حددها بخمس، ولكنه إذا توقف عند ذلك ربما أغفل أحد القوانين التي أشار إليها في مقدمته حول "سردية الغالب والمغلوب وتأثيراتها على عمليات الانتقال الحضارية وأشكالها ومآلاتها"؛ وهي لعمري مسألة مهمة في التوقف عندها تلك التي تقترن بحالة التبعية الشاملة والولع بها.

يؤكد "أحمد محمود" في مقاله "تأملات في ديناميكا التفاعل الحضاري"؛ أن "للتاريخ وجهة أخرى مرتبطة بالتداول الحضاري بين الأمم تتناول في معظمها مسار المعرفة في نشأتها وانتقالها وإبداعها والإضافة إليها بين الدول المختلفة، وقليل منها يتناول مسار المنتجات غير المعرفية لأمم الأرض". إذ يضيف بهذه القراءة الحضارية للتاريخ ملمحا مهما في فهم مسار الحضارة وأدوار الأمم فيها، وهو يتعلق بالتفاعل الحضاري أو ما يمكن تسميته بـ"الديناميكا الحضارية"، مؤكدا أن "هناك فراغات عدة في الحضارة المادية القائمة الآن في أبعادها المعرفية والفنية والقيمية، تحتاج معه الإنسانية إلى استكشاف هذه الفراغات وليتسابق أهل الحضارات في التماس مع ما هو قائم بمنتجات حضارية منطلقة من ثقافة مغايرة لهذه السائدة الآن، ولتسعد البشرية بما سينتج من توترات إيجابية لملء هذه الفراغات، بل وسحب بساط القيادة الحضارية حال الوصول إلى الاتزان الحضاري الذي ننتظره من تلك الديناميكية. الفراغ موجود، التماس حاصل والقانون لا يتبدل، ولكن أين المنتجات الحضارية النافذة؟".

مفهوم الانتقال الحضاري إذن غير كل ما ذكرنا من مفاهيم تشير إلى مراحل تطور الإنسانية، في سياق فكرة التداول الحضاري، وكذا في المفاهيم التي تشير إلى حالات جزئية على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي، ومن ثم يعبّر هذا المفهوم عن مسألة مخصوصة تشير إلى انتقال عالم الأفكار والمعارف النظرية إلى ميدان الواقع في التنزيل والتطبيق، هذا الانتقال الذي يشير إلى فكرة أساسية تنطلق فيما يُسمى المراحل الانتقالية الشرطية الذي لا يعبر بالأساس عن مراحل زمنية، بل يؤصل لمعنى "فقه المرحلة" بكل أبعادها وأعماق تشكلها وتشكيلها، وأصل الوصل والفصل بين سابقاتها ولاحقتها وسياقاتها ليؤمن مسارات الانتقال وتمكينها، إنه كذلك ذروة التفكير بمشروع الانبعاث الحضاري المتكامل ولذلك هو يمثل رباعية غاية في الأهمية.

إنها رباعية الانتقال؛ المدافعة للتحول، المتوسلة للتجدد والتجديد، والداعمة للتغيير، ومن ثم وصف الحضاري لعمليات الانتقال والتنزيل ليس زينة، أو من فائض الأوصاف، بل هو مفهوم مستخدم عمدا ووعيا بمقتضيات هذا الوصف "الحضاري".

من المهم أن نؤكد ونحن نتحدث عن "الانتقال" ووصفه بـ"الحضاري" أن الاسم والوصف واجتماعهما قد مثل تعقيدا لا بد أن نعيه، فالانتقال يعبر عن أوضاع متعددة ومتجددة وممتدة ومعقدة، والحضاري عبر عن وصف صادف في الكتابة عنه وفيه استخدامه وتوظيفه، واستعماله واستغلاله واستثماره، وبدا هذا الوصف مع كثرة الاستخدام وسيولة الاستعمال يضيف حالة من الإشكالات المعرفية والمنهجية، ومن ثم فإنه من المهم أن نتطرق إلى رباعية الفهم والإدراك بصورة منهجية في الرباعية التي نطرقها على نحو منهجي؛ التعريف وإشكالاته، والتوصيف واعتباراته، والتصنيفات وحدودها، والتوظيف ومجالاته.

إن هذا المدخل الذي يتوقف عند مفهوم "الانتقال الحضاري" والوقوف على عالم تداوله واستعماله؛ لهو من الأمور الضرورية، حتى يمكن لصاحب أي مشروع أن يتبنى تعريفا بعينه كما هو متعارف عليه في كتابات المنهج، بالتعريف الإجرائي، وهو تعريف فضلا عن انضباطه، فإنه كذلك يتمتع بدرجة من التقدير من الباحث من ناحية ودرجة من التحديد من ناحية أخرى، الذي ينصرف إلى تبني الباحث لتعريف بعينه، يشكل في الحقيقة عقدا بين الباحث المتبني لهذا التعريف، والمتلقين المتفاعلين معه، خروجا على معظم هذه الاستخدامات من غير ضبط أو حد، وفائض التداول الذي أسرف في استخدام كل أمر ووصفه بالحضاري، وحينما تستخدم الصفقة على هذا النحو تفقد معناها ومغزاها.

مفهوم الانتقال الحضاري مسكون بالتغيير بمعانيه الحضارية الشاملة والمتكاملة، ومفهوم التغيير كذلك يحمل في مكنونه عمليات الانتقال وتجلياتها، وأصول الانتقال ومادته، وأحوال الانتقال ومجالاته وأشكاله، وقدرات الانتقال ووضوح أهدافه ومقاصده

يقترب الدكتور "جاسم سلطان" من عمق مفهوم الانتقال الحضاري، فيؤكد أن "مشروع الوعي الحضاري والانتقال إلى الفاعلية، والتمكين والشهود، أخذ مسارا طويلا من التحليل، ولكنه فيما نرى، لم يأخذ حظه في مسار التنزيل.. الانتقال من سؤال ماذا ولماذا لسؤال كيف؟".. "وفي مشروع الوعي الحضاري نحتاج أن نصل لهذه الكتلة البشرية النوعية، وتحميلها بمشروع الوعي الحضاري وعيا يطلق طاقات هذه الكتلة البشرية لتعمل على تكوين مؤسسات الانطلاق وتملأ الفراغات، فمنها تتغذى شريحة المفكرين والنخبة السياسية، ومنها تولد شبكة الفنانين والأدباء والكتاب والمسرحيين والوعاظ، ومنها تبدأ معالجة الملفات الكبرى، جيل جديد قادر على أن يغذي مفاصل الفعل، ويصل الفكرة بالجماهير".. "إن التحرك لإيجاد نقطة انطلاق حقيقية لمشروع الوعي الحضاري، يكتسب أهمية قصوى اليوم للخروج من دائرة الشلل التحليلي والانطلاق لفضاء الممكنات العملية".

إن مفهوم الانتقال الحضاري مسكون بالتغيير بمعانيه الحضارية الشاملة والمتكاملة، ومفهوم التغيير كذلك يحمل في مكنونه عمليات الانتقال وتجلياتها، وأصول الانتقال ومادته، وأحوال الانتقال ومجالاته وأشكاله، وقدرات الانتقال ووضوح أهدافه ومقاصده، ومن ثم كان المكان وعاء الحضارة، وكان إعمال الشروط وسنن الحضارة بناء وتدهورا وانهيارا وقوانين الانتظام السنني في التداول والاستبدال، ولعل ذلك كله في دائرة تلك السنن الإلهية الماضية.

إنها سنن العاقبة: "أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ * وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ * وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ * الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ * فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ" (الفجر: 6-14). وقال تعالى: "وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ" (هود:117)؛ تؤكد شرطية وقوع الجزاء في أصل العدل الإلهي، وقال أيضا: "ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرا نِّعْمَة أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ۙ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (الأنفال:53). إنها قوانين التغيير الماضية التي يجب تدبرها والوقوف على معانيها ومغازيها.

x.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)