ما المنطق الذي يمكن
أن يستند إليه أي مسؤول عربي وهو يتحدث بحماسة عن "كفاحه" من أجل
الاعتراف بدولة
فلسطينية مستقلة، بينما يضيّق في بلده
على أبسط رموز هذه
الدولة، فيمنع رفع علم فلسطين أو يضع لذلك من القيود ما يجعل الأمر
شبه مستحيل؟
هذا التناقض لم يعد
افتراضا، بل هو واقع يعيشه الفلسطيني والعربي في أكثر من بلد. ففي بعض العواصم العربية، لا يُسمح للمتظاهرين أو حتى لطلبة
الجامعات برفع العلم الفلسطيني في ساحات عامة، ويُعامَل من يفعل ذلك كما لو ارتكب جرما
سياسيا. وفي مناسبات دولية كبرى استضافتها المنطقة، فُرضت قيود صارمة
على أي تعبير شعبي يتصل بفلسطين، حتى وصل الأمر إلى منع رفع العلم داخل أماكن الفعاليات،
والاكتفاء ببيانات رسمية لا تتجاوز حدود الخطابة.
أما على صعيد حرية
التنقل، فالمفارقة أكبر وأكثر إيلاما. فحاملو الجواز الفلسطيني أو حتى وثائق السفر المؤقتة التي تصدر للاجئين، يواجهون
متاعب لا حصر لها على الحدود. يُطلب منهم في بعض المطارات الحصول على موافقات أمنية استثنائية، ويُخضعون لإجراءات
طويلة، بينما قد تُرفض طلباتهم للدخول بلا تفسير واضح. بل إن بعض الدول العربية والإسلامية أغلقت أبوابها أمامهم
تماما، فلا يُسمح لهم بالعبور إلا عبر وساطات أو استثناءات نادرة.
الاعتراف الدولي لا يكتسب قيمته إلا إذا انعكس على الأرض، والبدء من الداخل هو المحك الحقيقي: السماح برفع العلم الفلسطيني بلا خوف، وتنظيم الفعاليات الشعبية بلا قيود أمنية خانقة، ومعاملة الفلسطيني باحترام
والأدهى من ذلك أنّ
الفلسطيني يظل مطاردا بمعاناته حتى في الدول التي تزعم دعم القضية. يكفي أن يحمل وثيقة سفر صادرة من بلد لجوء، ليُعامل على أنه
"مشتبه
به" أو "حالة خاصة" تتطلب إجراءات مضاعفة، مع ما يعنيه ذلك من إهانة مضاعفة لإنسان
يبحث فقط عن أبسط حقوقه في الحركة والعمل والتعليم.
هذا التناقض يضعف
صدقية الخطاب الرسمي، فكيف يقتنع الشارع
العربي بجدية حديث مسؤول عن الاعتراف بالدولة الفلسطينية، بينما سياساته الداخلية تُضيّق
على الفلسطيني نفسه، وتحاصر علمه ورمزه وهويته؟ وكيف يمكن أن يؤخذ أي خطاب عن "الكرامة
والحرية" على محمل الجد، إذا كانت الممارسات اليومية تنسف هذه القيم
في المهد؟
إن الاعتراف الدولي
لا يكتسب قيمته إلا إذا انعكس على الأرض، والبدء من الداخل هو المحك الحقيقي: السماح برفع العلم الفلسطيني بلا خوف، وتنظيم الفعاليات الشعبية
بلا قيود أمنية خانقة، ومعاملة الفلسطيني باحترام لا كمشتبه دائم. عندها فقط يصبح الحديث عن الاعتراف بدولة فلسطين أكثر من
مجرد مناورة دبلوماسية، بل التزاما أخلاقيا وسياسيا يردم الهوة بين
الشعارات والواقع.
فالقضية الفلسطينية
لم تحتج يوما إلى المزيد من الخطابات، بل إلى مواقف عملية من أقرب الناس إليها. أن يجد الفلسطيني الأبواب العربية مشرعة أمامه لا موصدة،
وأن يرى علمه يرفرف في العواصم بلا محاذير ولا اعتذارات؛ حينها، سيصبح الاعتراف الدولي استكمالا طبيعيا لموقف شعبي
راسخ، لا ورقة للاستهلاك الإعلامي أو للاستثمار السياسي.