قضايا وآراء

العالم يعترف بدولة فلسطينية وإسرائيل تهدد بضم الضفة: صراع الشرعية بين إرادة الشعوب وغطرسة الاحتلال

لؤي صوالحة
"إسرائيل قد تملك السلاح، لكنها لا تملك الشرعية"- جيتي
"إسرائيل قد تملك السلاح، لكنها لا تملك الشرعية"- جيتي
يا لها من لحظة تاريخية يتنفس فيها الفلسطيني بعضا من الأمل الممزوج بمرارة الانتظار الطويل. العالم، أو بالأحرى جزء متنامٍ من ضميره الحي، بدأ يعترف رسميا بدولة فلسطين، بعد أكثر من سبعة عقود من النضال، والدماء، والصمود، والمقاومة. وفي اللحظة ذاتها، وكأنها محاولة بائسة لإلغاء هذا الإنجاز، تخرج إسرائيل ملوّحة بضم الضفة الغربية، مستهترة بكل قوانين الأرض، ومتحدّية كل الأعراف والاتفاقيات الدولية. هنا تتجلى المفارقة: بينما يخطو الفلسطينيون خطوة نحو تثبيت وجودهم السياسي والقانوني والإنساني على الخارطة، يسعى الاحتلال لمحو كل ما يمكن أن يُترجم على الأرض كحق أصيل غير قابل للتصرف. هذه المفارقة ليست عابرة، بل تحمل في طياتها صراعا عميقا بين شرعية نضال الشعوب وشرعية مزعومة تبنى على القوة العسكرية والاستعمار الاستيطاني.

الفلسطيني الذي ينتظر منذ وعد بلفور وحتى اليوم، لم يعد بحاجة إلى شهادة من أحد ليبرهن على أنه صاحب الأرض والتاريخ، لكنه يدرك أن اعتراف الدول به يفتح نافذة في جدار العزلة، ويعيد تشكيل الوعي العالمي تجاه قضيته. أما إسرائيل، التي بُني كيانها على أنقاض النكبة، فهي تخشى أن يتحول هذا الاعتراف إلى كرة ثلج تكبر وتُقيد قدرتها على فرض الوقائع بالقوة. لذلك تهدد بالضم، وكأنها تقول للعالم: "مهما اعترفتم بفلسطين، فنحن نملك الأرض بالقوة". وهنا تبدأ الحكاية الكبرى: صراع ليس فقط على الأرض، بل على الشرعية ذاتها.

الفلسطيني الذي ينتظر منذ وعد بلفور وحتى اليوم، لم يعد بحاجة إلى شهادة من أحد ليبرهن على أنه صاحب الأرض والتاريخ، لكنه يدرك أن اعتراف الدول به يفتح نافذة في جدار العزلة، ويعيد تشكيل الوعي العالمي تجاه قضيته. أما إسرائيل، التي بُني كيانها على أنقاض النكبة، فهي تخشى أن يتحول هذا الاعتراف إلى كرة ثلج تكبر وتُقيد قدرتها على فرض الوقائع بالقوة

البعد السياسي: من الاعتراف إلى التحدي

السياسة الدولية بطبيعتها متقلبة، لكن الاعتراف بدولة فلسطين من قبل دول أوروبية وأمريكية لاتينية وآسيوية مؤخرا لم يكن خطوة رمزية فحسب، بل كان إعلانا عن بداية تحول في ميزان المواقف، يعكس إدراكا متأخرا لحقيقة لا يمكن طمسها: أن استمرار الاحتلال الإسرائيلي هو جرح مفتوح في جسد النظام الدولي، وفضيحة أخلاقية وقانونية تعكس ازدواجية المعايير.

إسرائيل، التي لطالما اعتمدت على الدعم الغربي المطلق، تجد نفسها أمام مشهد جديد: حلفاء الأمس باتوا يعلنون اعترافهم بفلسطين، ليس حبا بالفلسطيني وحده، بل إدراكا أن التواطؤ مع الاحتلال أصبح عبئا سياسيا وأخلاقيا أمام شعوبهم. فالمظاهرات التي اجتاحت عواصم الغرب خلال الحرب على غزة، والضغط الشعبي المتزايد، جعلت الحكومات مضطرة للقيام بخطوات كانت ترفضها لعقود.

لكن بدل أن تتجاوب إسرائيل مع هذه التحولات، لجأت إلى سلاحها المفضل: التهديد؛ تهديد بضم الضفة الغربية، أي إعلان رسمي بقتل ما تبقى من "حل الدولتين" الذي طالما تغنت به القوى الغربية نفسها. وهذا التهديد ليس مجرد تصريح إعلامي، بل استراتيجية مرسومة ضمن برنامج أوسع يقوم على تكريس الاحتلال وتحويله إلى واقع لا رجعة فيه.

البعد القانوني: بين الشرعية الدولية وشرعية القوة

من الناحية القانونية، لا تحتاج فلسطين إلى اعتراف جديد لتثبت حقها في الوجود، فقرارات الأمم المتحدة منذ القرار 181 (قرار التقسيم) مرورا بالقرار 242 والقرار 338 وصولا إلى اعتراف الجمعية العامة بها كدولة مراقب عام 2012، كلها تشكل أرضية قانونية متينة لوجودها. لكن القانون الدولي ظل عاجزا عن حماية هذا الحق أمام القوة الإسرائيلية المدعومة من واشنطن.

هنا يكمن جوهر المسألة: هل القانون الدولي فعلا ملزم؟ أم أنه مجرد حبر على ورق ما لم تقف وراءه قوة قادرة على التنفيذ؟ إسرائيل تراهن على ضعف المجتمع الدولي وتشتته، وتتصرف كما لو أن القانون الدولي مجرد أداة في يد الأقوياء، تستخدم ضد الضعفاء فقط. لذلك تهدد بالضم وكأنها فوق المحاسبة.

لكن الاعتراف الدولي بفلسطين يغير هذه المعادلة، فحين تعترف دولة أوروبية كبرى بدولة فلسطين، فإنها تمنح الفلسطيني أدوات جديدة لملاحقة الاحتلال في المحاكم الدولية، وتخلق بيئة قانونية يمكن أن تحاصر إسرائيل سياسيا. صحيح أن هذه الأدوات لا توقف الدبابات ولا تمنع هدم البيوت، لكنها تضع إسرائيل في خانة "دولة مارقة" منبوذة، وهذا ما تخشاه تل أبيب أكثر من أي شيء آخر.

البعد الاجتماعي: الفلسطيني بين الأمل والخوف

بالنسبة للفلسطيني العادي، خبر اعتراف العالم بدولته ليس تفصيلا دبلوماسيا باردا، بل هو شعور بالكرامة المستعادة، ولو جزئيا. الفلسطيني الذي يعيش تحت الاحتلال يمر عبر الحواجز، يرى المستوطنات تكبر حول قريته، ويحمل هوية بلا دولة، يشعر أن العالم أخيرا يسمع صوته. لكن في اللحظة ذاتها، يعتصره القلق: ماذا لو رد الاحتلال على هذا الاعتراف بمزيد من البطش؟ ماذا لو تحولت فرحة الاعتراف إلى كابوس ضم جديد؟

في المخيمات، بين الأزقة الضيقة والخيام التي صارت بيوتا من إسمنت، يتحدث الكبار عن حلم العودة، بينما ينظر الأطفال إلى المستقبل بعينين حائرتين: هل سنكبر في دولة فلسطينية مستقلة، أم في كانتونات محاصرة خلف الجدار؟ هنا يتجلى البعد الإنساني بأوضح صورة: الاعتراف ليس مجرد خطوة سياسية، بل هو أمل يتعلق به الملايين ممن ولدوا في المنفى أو تحت الاحتلال.

وإسرائيل، التي تدرك قوة هذا البعد، تسعى لتحطيمه عبر سياسات الإذلال اليومية، وكأنها تقول للفلسطيني: "لن يفيدك الاعتراف، فأنا أتحكم في حياتك وموتك". لكن الفلسطيني، الذي اعتاد تحويل الألم إلى طاقة مقاومة، يرى في الاعتراف فرصة لمزيد من الصمود، وليس نهاية الطريق.

البعد الإنساني: صراع الكرامة

في كل قصة فلسطينية، من الشهيد الذي يسقط دفاعا عن أرضه، إلى الأسير الذي يقضي عمره خلف القضبان، إلى الأم التي تودع أبناءها عند الحواجز، يتجلى بعد إنساني عميق يتجاوز السياسة والقانون. الاعتراف بدولة فلسطين في جوهره هو اعتراف بكرامة هؤلاء جميعا، بإنسانيتهم، بحقهم في أن يكونوا أحرارا لا رعايا تحت حكم احتلال استيطاني عنصري.

إسرائيل حين تهدد بالضم، لا تهدد فقط بإلغاء حدود أو تغيير خرائط، بل تهدد بطمس كرامة شعب كامل، بتجريد الفلسطيني من إنسانيته. لكنها، في النهاية، تفشل في ذلك، لأن الإنسان الفلسطيني تعلم عبر التاريخ أن كرامته لا يحددها محتل، بل يحددها إيمانه بنفسه وصموده في وجه كل محاولات المحو.

البعد التاريخي: من النكبة إلى الاعتراف

لا يمكن فهم هذه اللحظة دون العودة إلى التاريخ. منذ عام 1948، حين ارتكبت النكبة وتم تهجير مئات آلاف الفلسطينيين، لم يتوقف الشعب الفلسطيني عن النضال لإثبات وجوده. كل حجر في الانتفاضة الأولى، كل صرخة في الانتفاضة الثانية، كل خيمة نصبها لاجئ في الشتات، كانت تقول للعالم: نحن هنا.

اليوم، يأتي الاعتراف بدولة فلسطين كاستجابة متأخرة لهذه الحقيقة التاريخية، لكنه أيضا يطرح سؤالا جوهريا: لماذا تأخر العالم كل هذا الوقت؟ الجواب يكمن في التوازنات الدولية، في النفوذ الصهيوني في الغرب، في المصالح الاقتصادية والسياسية. لكن، رغم ذلك، لم يستطع العالم تجاهل الحقيقة إلى الأبد.

وإسرائيل، التي تأسست على أساس إنكار الوجود الفلسطيني، تجد نفسها أمام مأزق تاريخي: كيف ستقنع العالم أن الفلسطيني غير موجود بينما الدول تعترف به كدولة ذات سيادة؟

البعد الدولي: صراع الإرادات

العالم اليوم منقسم، هناك دول تعترف بفلسطين وتدعم حقوقها، وهناك دول تواصل دعم الاحتلال بلا حدود، وعلى رأسها الولايات المتحدة. لكن ما يهم هو أن التوازن بدأ يتغير؛ الاعتراف المتزايد بفلسطين يعكس تراجع الهيمنة المطلقة للغرب، وصعود قوى جديدة تفرض أجندتها على الساحة الدولية.

فلسطين ليست مجرد قضية سياسية، بل قضية إنسانية، وأخلاقية، وقانونية، واجتماعية، وتاريخية. اعتراف العالم بها هو انتصار للإنسانية، وتهديد إسرائيل بالضم هو فضيحة لكل من يدعي الدفاع عن القانون الدولي

إسرائيل، التي اعتادت الاعتماد على دعم واشنطن وحدها، تجد أن هذا الدعم لم يعد كافيا لعزل الفلسطيني. فالمجتمع الدولي بدأ ينظر للقضية الفلسطينية كاختبار لمصداقية القيم العالمية: هل حقوق الإنسان حق للجميع، أم مجرد شعار يستخدم حسب المصلحة؟ هنا يصبح الاعتراف بفلسطين أكثر من قضية محلية، إنه جزء من معركة أوسع لإعادة تعريف النظام الدولي نفسه.

في الختام: بين الاعتراف والضم، إلى أين؟

نحن أمام لحظة فارقة؛ العالم يعترف بفلسطين، وإسرائيل تهدد بضم الضفة. في الظاهر، قد يبدو الأمر متناقضا، لكن في العمق، هو تعبير عن صراع طويل بين إرادة الشعوب وواقع الاحتلال. الاعتراف لا يكفي وحده لتحرير الأرض، لكنه خطوة لا يمكن الاستهانة بها. والضم، مهما حاول الاحتلال فرضه، لن يلغي حقيقة أن الفلسطيني موجود، وأن العالم بدأ يسمعه أخيرا.

المعركة إذا ليست فقط على الأرض، بل على الشرعية. وإسرائيل قد تملك السلاح، لكنها لا تملك الشرعية. والفلسطيني قد يُحاصر ويُقمع، لكنه يملك الشرعية والحق والتاريخ. وبين هذا وذاك، ستبقى فلسطين، كفكرة وكحقيقة، أقوى من كل محاولات الطمس والضم.

وهنا يعلو صوت الحق: فلسطين ليست مجرد قضية سياسية، بل قضية إنسانية، وأخلاقية، وقانونية، واجتماعية، وتاريخية. اعتراف العالم بها هو انتصار للإنسانية، وتهديد إسرائيل بالضم هو فضيحة لكل من يدعي الدفاع عن القانون الدولي. وفي النهاية، كما أثبت التاريخ مرارا، قد يتأخر العدل، لكنه لا يغيب. فلسطين ستبقى، لأنها ليست مجرد دولة على الورق، بل وطن في قلوب الملايين، وحقيقة لا يمكن محوها.
التعليقات (0)