فلسطين ليست مجرد جغرافيا محدودة ولا نزاعًا
سياسيًا عابرًا، بل هي مرآة تعكس أعمق جدليات التاريخ البشري.. العلاقة بين النصوص
المقدسة والواقع الأرضي، بين القوة والعقيدة، بين القانون الدولي وحق الإنسان في
الحياة والكرامة. في فلسطين تتقاطع الكتب السماوية مع خرائط الاستعمار، وتمتزج
دماء الأطفال مع نصوص التوراة وسفر القضاة، وتتجسد بروتوكولات السيطرة الحديثة في
مشروع استيطاني يواصل حروبًا قديمة بأسماء جديدة. ولعل هذا التشابك يجعل من فلسطين
قضية لا تخص شعبًا واحدًا فقط، بل هي قضية الوعي الإنساني كله.
الجذور النصية.. من سفر القضاة إلى
بروتوكولات السيطرة
حين نعود إلى سفر القضاة في التوراة، نجد
قصة جدعون وعرباته، وكيف خرج بجيش صغير لهزيمة عدو أكبر، مدعومًا بإيمان غيبي بأن
النص يمنح الشرعية للنصر. غير أن هذه القصة القديمة لم تُترك في صفحات الماضي، بل
جرى استحضارها في حاضرنا المعاصر: إسرائيل حين تسمي عملياتها العسكرية بأسماء
توراتية، فهي لا تختار الأسماء اعتباطًا. عملية "عربات جدعون" ليست مجرد
تسمية، بل هي استدعاء مباشر للنص الديني لتغليف
الحرب بغلاف قداسة، وكأن القتل
يصبح عبادة، والاجتياح يصبح امتدادًا لمعركة مقدسة.
لم تكن فلسطين يومًا معزولة عن حركة التاريخ. فمنذ الفتح الإسلامي، إلى الحروب الصليبية، إلى الانتداب البريطاني، ثم النكبة عام 1948، والاحتلال عام 1967، كانت هذه الأرض دائمًا مركزًا لصراع القوى الكبرى. لكن خصوصيتها أنها ليست مجرد مساحة استراتيجية، بل هي أيضًا محمّلة برمزية دينية وحضارية هائلة. القدس وحدها تختصر العالم: فيها يلتقي المسجد الأقصى مع حائط البراق وكنيسة القيامة. ولهذا، فإن من يسيطر على فلسطين يسعى إلى امتلاك مفتاح الذاكرة والرمزية الروحية، لا مجرد قطعة أرض.
أما بروتوكولات صهيون، وإن كان الجدل قائمًا
حول وثائقيتها، إلا أن الأهم هو وظيفتها كمرآة لذهنية السيطرة. فكرة الشعب
المختار، وفكرة التفوق، وفكرة امتلاك الأرض استنادًا إلى وعد إلهي، كلها عناصر
تُستخدم لتبرير مشروع استعماري يُراد له أن يبدو حتميًا وتاريخيًا. وهنا تكمن
الخطورة: حين يتحول النص الديني إلى ذريعة لإلغاء الآخر، يصبح الدم البشري مجرد
تفصيل في رواية كبرى يُراد أن تُكتب بمداد القوة.
فلسطين كحقل اختبار للتاريخ
لم تكن فلسطين يومًا معزولة عن حركة
التاريخ. فمنذ الفتح الإسلامي، إلى الحروب الصليبية، إلى الانتداب البريطاني، ثم
النكبة عام 1948، والاحتلال عام 1967، كانت هذه الأرض دائمًا مركزًا لصراع القوى
الكبرى. لكن خصوصيتها أنها ليست مجرد مساحة استراتيجية، بل هي أيضًا محمّلة برمزية
دينية وحضارية هائلة. القدس وحدها تختصر العالم: فيها يلتقي المسجد الأقصى مع حائط
البراق وكنيسة القيامة. ولهذا، فإن من يسيطر على فلسطين يسعى إلى امتلاك مفتاح
الذاكرة والرمزية الروحية، لا مجرد قطعة أرض.
هنا يظهر الدور الاستيطاني: المستوطنات ليست
فقط بيوتًا تُبنى على أرض مسروقة، بل هي إعادة كتابة للتاريخ. كل بؤرة استيطانية
هي بمثابة "نص جديد" يُضاف فوق النص الفلسطيني، محاولةً لمحو الذاكرة
الأصلية وزرع ذاكرة بديلة. وهكذا يصبح الصراع في جوهره صراعًا على السردية: من
يملك الحق في كتابة التاريخ ومنح الشرعية.
البعد الإنساني.. من النكبة إلى الإبادة
حين نتحدث عن فلسطين، لا يمكن أن نكتفي
بالتحليل السياسي أو التاريخي فقط. فالمأساة هنا إنسانية قبل كل شيء. منذ النكبة
عام 1948، حين هُجّر أكثر من 750 ألف فلسطيني قسرًا من قراهم ومدنهم، تحول الشعب
الفلسطيني إلى مجتمع من اللاجئين. المخيمات التي نشأت في لبنان وسوريا والأردن
والضفة وغزة لم تكن مجرد مساكن مؤقتة، بل أصبحت رمزًا للذاكرة الجمعية. كل خيمة أو
غرفة في المخيم تحمل قصة جيل كامل، وصرخة: "كنا هنا وسنعود".
لكن النكبة لم تكن حدثًا واحدًا. لقد استمرت
بأشكال مختلفة: النكسة عام 1967، الاجتياحات، الحروب المتكررة على غزة، سياسات
التهجير الصامت في القدس والضفة، والجدار الفاصل الذي يقطع الأوصال. وما نراه
اليوم في غزة من إبادة جماعية هو استمرار منطقي لمسار بدأ منذ قرن كامل: قتل منهجي
للمدنيين، حصار وتجويع، هدم البيوت على رؤوس ساكنيها، وتحويل القطاع إلى مختبر
للموت.
الطفل الفلسطيني ليس مجرد رقم في نشرات
الأخبار. هو شاهد على جريمة يومية. كل حجر يحمله طفل في مخيم، هو صرخة ضد دبابات
مدججة. كل أم تبكي على جثمان ابنها، تحمل رسالة إلى العالم: هذا الدم ليس رخيصًا،
وهذه الأرض لا تُشترى بالوعود.
القانون الدولي بين العجز والتواطؤ
القانون الدولي وُضع ليحمي الإنسان من بطش
القوة، لكن في فلسطين يتحول إلى نص معطّل. قرارات الأمم المتحدة العديدة التي تؤكد
حق العودة للفلسطينيين تبقى حبرًا على ورق. اتفاقيات جنيف التي تحظر الاستيطان في
الأراضي المحتلة تُنتهك يوميًا دون عقاب. وبدلًا من أن يكون المجتمع الدولي شاهد
عدل، يتحول في كثير من الأحيان إلى شريك في الجريمة، عبر الصمت أو التواطؤ أو
تسليح المعتدي.
الطفل الفلسطيني ليس مجرد رقم في نشرات الأخبار. هو شاهد على جريمة يومية. كل حجر يحمله طفل في مخيم، هو صرخة ضد دبابات مدججة. كل أم تبكي على جثمان ابنها، تحمل رسالة إلى العالم: هذا الدم ليس رخيصًا، وهذه الأرض لا تُشترى بالوعود.
الولايات المتحدة على سبيل المثال ليست مجرد
وسيط منحاز، بل هي شريك فعلي: تمويل عسكري، غطاء دبلوماسي، وتسويق للرواية
الإسرائيلية. بينما أوروبا، التي تعرف جيدًا معنى
الاحتلال ومعنى الإبادة، تقف
غالبًا موقف العاجز أو المتردد. وهنا يصبح السؤال: إذا كان القانون الدولي لا
يُطبّق في فلسطين، فأي قيمة تبقى له في العالم؟ أليس هذا انهيارًا لمنظومة العدالة
الإنسانية كلها؟
الصراع على الذاكرة والهوية
إسرائيل لا تخوض حربًا فقط على الأرض، بل
أيضًا على الذاكرة. محاولات تهويد القدس، تغيير أسماء الشوارع، محو القرى المدمرة
من الخرائط، كلها سياسات تهدف إلى خلق ذاكرة بديلة. لكن الذاكرة الفلسطينية أقوى:
في كل بيت، صورة لقرية مهدمة، مفتاح قديم يُعلّق على جدار، حكاية تُروى من الجد
إلى الحفيد. هذه الذاكرة هي سلاح الفلسطيني الأقوى، لأنها لا تُمحى بالقصف ولا
بالجدران.
الموسيقى، الأدب، الشعر، اللوحات الفنية ـ
كلها تحولت إلى أدوات مقاومة. محمود درويش لم يكن شاعرًا فقط، بل مؤرخًا روحيًا
لفلسطين. غسان كنفاني لم يكن مجرد روائي، بل مفكرًا حمل مخيمات اللاجئين إلى صفحات
الأدب العالمي. هكذا، تصبح الثقافة جبهة موازية لا تقل أهمية عن الميدان.
الدين كأداة للتحرر لا للهيمنة
من المفارقة أن النصوص الدينية التي تُستخدم
لتبرير الاحتلال، هي نفسها التي تحمل في جوهرها قيم العدالة والرحمة. التوراة
نفسها تتحدث عن "العدل"، والإنجيل عن "المحبة"، والقرآن عن
"الحق والحرية". لكن حين تُختزل هذه النصوص لتصبح أداة بيد المستعمر،
تُفقد معناها الحقيقي. في المقابل، يقدّم الفلسطيني نموذجًا آخر: التمسك بالدين
كقوة تحرر، لا كأداة قمع. المسجد الأقصى، بقبابه ومآذنه، ليس مجرد مكان للعبادة،
بل رمز للكرامة والصمود. والكنائس التي تفتح أبوابها للمشردين وقت القصف، تجسد
أرقى معاني الإيمان.
من المحلية إلى الكونية
القضية الفلسطينية قد تبدو للبعض نزاعًا
محليًا في رقعة صغيرة من الشرق الأوسط، لكنها في جوهرها قضية كونية. لأنها تمسّ
جوهر الأسئلة التي تواجه البشرية: هل يعلو النص على الإنسان أم الإنسان على النص؟
هل يملك القوي الحق لمجرد أنه قوي؟ هل يمكن أن يُبنى السلام على الإبادة؟ هذه
الأسئلة لا تخص الفلسطيني وحده، بل تخص ضمير كل إنسان.
إسرائيل لا تخوض حربًا فقط على الأرض، بل أيضًا على الذاكرة. محاولات تهويد القدس، تغيير أسماء الشوارع، محو القرى المدمرة من الخرائط، كلها سياسات تهدف إلى خلق ذاكرة بديلة. لكن الذاكرة الفلسطينية أقوى: في كل بيت، صورة لقرية مهدمة، مفتاح قديم يُعلّق على جدار، حكاية تُروى من الجد إلى الحفيد. هذه الذاكرة هي سلاح الفلسطيني الأقوى، لأنها لا تُمحى بالقصف ولا بالجدران.
من هنا نفهم لماذا تتحول فلسطين إلى أيقونة
لكل حركات التحرر في العالم. من جنوب إفريقيا التي واجهت الأبارتهايد، إلى شعوب
أمريكا اللاتينية، إلى أصوات السود في الولايات المتحدة، الكل يرى في فلسطين مرآة
لمعركته الخاصة. وحين يهتف متظاهر في شيكاغو أو جوهانسبرغ أو باريس باسم غزة، فهو
لا يدافع فقط عن الفلسطينيين، بل يدافع عن إنسانيته هو.
وفي الختام.. فلسطين كاختبار لضمير العالم
في النهاية، فلسطين ليست فقط قضية العرب ولا
المسلمين ولا المسيحيين، بل هي قضية الإنسان. هي اختبار يومي لمدى صدق القيم التي
نرفعها: العدالة، الحرية، حقوق الإنسان. إذا سقطت هذه القيم في فلسطين، فلن تصمد
في أي مكان آخر.
الاحتلال قد يملك القوة والسلاح والدعم
الدولي، لكنه يفتقد الشرعية الأخلاقية. أما الفلسطيني، فربما يُحاصر ويُقصف
ويُهجّر، لكنه يملك ما هو أعظم: حقه التاريخي والإنساني، وذاكرة لا تموت، وإرادة
لا تُكسر. لهذا، فإن فلسطين ستبقى، رغم كل الجراح، رمزًا للعدل الذي قد يتأخر،
لكنه لا يُمحى.
فلسطين اليوم ليست مجرد أرض محتلة، بل هي
صرخة ضمير عالمي: إما أن نكون أوفياء لإنسانيتنا، أو نسمح بأن يُدفن الضمير تحت
ركام غزة وأزقة المخيمات. والخيار أمام العالم واضح: إما أن يُكتب التاريخ كوثيقة
عدل، أو يُسجل كوصمة عار أبدية. وفي كل الأحوال، ستبقى فلسطين، لأن الشعوب لا
تموت، ولأن الدم لا يتحول إلى ماء، ولأن الأرض تعرف أصحابها.
*كاتب وصحفي فلسطيني