قضايا وآراء

108 أعوام على وعد بلفور: شهادة ميلاد الظلم ودم فلسطين الذي لن ينكسر

لؤي صوالحة
"المعركة لم تعد على الأرض فقط، بل على السردية"- فيسبوك
"المعركة لم تعد على الأرض فقط، بل على السردية"- فيسبوك
بعد 108 أعوام على وعدٍ كان حبره أكثر فتكا من كل الحروب، ما زال العالم يدور في فلك جملة كتبها وزير خارجية بريطاني يُدعى آرثر بلفور عام 1917: "تنظر حكومة صاحب الجلالة بعين العطف إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين".

سطر واحد، قصير في كلماته، طويل في جرائمه، إذ أطلق قرنا من الخراب الممنهج، لم يقتصر أثره على فلسطين وحدها، بل غيّر الجغرافيا العربية بأكملها. اليوم، وبعد عقود على تلك الرسالة، يظهر بوضوح أن وعد بلفور لم يكن لليهود بقدر ما كان حكما بالإعدام على المنطقة بأسرها، وشهادة ميلاد لمرحلة من أطول معاناة عرفها التاريخ الحديث.

القرن الذي أعاد تشكيل الشرق: بلفور والخرائط المغلقة

وعد بلفور لم يكن نصا عابرا، بل مشروعا لإعادة هندسة المشرق العربي. منذ اللحظة الأولى، أدركت لندن أنها تؤسس لـ"رأس جسر استعماري" في قلب العالم العربي، يفصل آسيا عن أفريقيا، ويكسر تواصل المشرق بالمغرب.

خطوات هذا المشروع كانت متسلسلة، دقيقة، وحاسمة:

- سايكس بيكو رسمت الحدود بالمسطرة، لتقسم الأمة وتزرع الفوضى.

- بلفور أدخل الغرباء إلى قلب الأرض المقدسة، ليصبح الاحتلال سياسيا قبل أن يكون عسكريا.

- الانتداب البريطاني شرّع السرقة بالقانون، ومنح القوة لمشروع لم يكن مشروعا سياسيا فقط، بل مشروعا للسيطرة والتحكم.

- النكبة جاءت لتكمل المخطط الإمبراطوري: "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، واحدة من أكبر الأكاذيب في تاريخ القرن العشرين.

اليوم، بعد 108 أعوام، تتكشف الحقيقة بوضوح: لم يكن الهدف حماية اليهود، بل زرع كيان يضمن تفكك العرب، ويقمع إرادتهم، ويجعل مواردهم وقراراتهم رهينة لإرادة غربية متحكمة.

فلسطين.. الجرح الذي لم يلتئم

لو قُدّر لبلفور أن يرى ما جرى، لعلم أن رسالته لم تُنتج "وطنا" لليهود، بل جرحا مفتوحا في قلب الإنسانية. كل بيت هُدم في غزة، وكل شهيد من القدس إلى جنين، وكل طفل فقد عائلته تحت الركام؛ هو سطر جديد في الوثيقة التي لم تتوقف عن النزف، وكأن فلسطين بأكملها أصبحت دفتر تاريخ من دماء الأبرياء. فلسطين ليست مجرد قضية حدود، بل قضية عدالة وجودية تهز ضمير العالم بأسره.

حين سقطت القنابل على غزة، واقتحم الاحتلال مخيمات جنين ونور شمس ونابلس، وقُطعت أشجار الزيتون في الخليل، كانت روح وعد بلفور تطلّ لتقول: "ما زال الوعد قائما، وما زال العالم يتواطأ بالصمت".

لكن اليوم، الوعي العالمي لم يعد كما كان؛ بعد قرن من الدعاية الصهيونية، بدأت الحقائق تتسرب من الإعلام الغربي نفسه، وصارت صور الأطفال الفلسطينيين أقوى من كل بيانات الخارجية البريطانية وتبريرات واشنطن.

العالم العربي بين التجزئة والصحوة: الخرائط الجديدة والموت المتكرر

من رحم وعد بلفور وُلدت خرائط جديدة، وميتات متتالية، وأزمات مستمرة. قسّموا المشرق كي لا تقوم له قائمة، جعلوا من النفط لعنة، ومن الحدود أسوارا، ومن الجيوش أدوات ضبط لا أدوات تحرير. لكنهم لم يستطيعوا قتل الفكرة: فكرة فلسطين التي تتنفس كلما حاولوا خنقها، وتنتفض كلما حاولوا طيّها في النسيان.

حاولوا تحويل فلسطين إلى مجرد ملف تفاوض، ثم قضية إنسانية، ومأساة إغاثية، والآن عبء أخلاقي على الضمير الدولي. لكن صمود غزة، ومقاومة الضفة، ووحدة الشعب الفلسطيني في الشتات؛ أعادت تعريف المعادلة: فلسطين لم تعد تبحث عن تعاطف، بل عن شراكة في معركة الوعي والكرامة.

القانون الدولي المشلول: وعد بلفور كجريمة مكتملة الأركان

وعد بلفور جريمة مكتملة الأركان في ميزان القانون الدولي؛ لا يملك أحد أن يعد بأرض يملكها شعب آخر، ولا أن يمنح "حقا سياسيا" لمجموعة على حساب أصحاب الأرض الأصليين.

القانون الدولي، الذي أُسس بعد الحرب العالمية الثانية، يقر بأن حق تقرير المصير حق غير قابل للتصرف، لكن المجتمع الدولي أسقطه حين وصل إلى القدس وغزة.

بريطانيا لم تعتذر عن مسؤوليتها التاريخية، ولم تبد أي ندم رمزي، بل زادت تحالفها مع إسرائيل في التسليح والاستخبارات، وكأنها تقول: "لم نعدِ فقط قبل قرن، بل ما زلنا نُنفّذ حتى اليوم".

وهنا المفارقة الأخلاقية الكبرى: العالم الذي يطالب ألمانيا بالاعتذار عن الهولوكوست، يرفض الاعتذار عن "النكبة" لأن الضحايا عرب وفلسطينيون.

من بلفور إلى بايدن: الوجوه تتبدل والوعد واحد

تغيّرت الأسماء، لكن الوعد ذاته استمر؛ من لندن إلى واشنطن، من بلفور إلى بايدن، الخطاب نفسه يتكرر: "نضمن أمن إسرائيل"، "ندعم حقها في الدفاع عن نفسها"، "نرفض معاداة السامية"، بينما لا أحد يقول: "نضمن حق الفلسطينيين في الحياة".

اليوم، إسرائيل دولة فصل عنصري وفق منظمات حقوقية عالمية، لكن الغرب يواصل التعامل معها كـ"ديمقراطية محاصرة"، تماما كما كتب بلفور قبل 108 أعوام: الشرق بحاجة إلى "التمدين" عبر مشروع أوروبي.

المفارقة أن هذا "التمدين" لم يُنتج سوى الاحتلال والقتل والدمار، بينما الشعوب الموصوفة بالتخلف ما زالت تولد مقاومين ومفكرين وحلما لا ينكسر.

الوعي الفلسطيني الجديد: من المقاومة إلى الرواية

مرور 108 أعوام على وعد بلفور ليس مناسبة للندب، بل محطة لتأكيد أن الزمن لم يهزم الفكرة. في كل بيت فلسطيني ذاكرة، وفي كل قرية نُكبت جيل يروي الحكاية كما لو حدثت بالأمس، وفي كل خيمة لاجئين يولد طفل يرفع الراية ليس للثأر، بل لإعلان الحق.

جيل ما بعد 2023 -جيل المقاومة والإعلام الرقمي والوعي العالمي- بات يدرك أن المعركة لم تعد على الأرض فقط، بل على السردية. الدم الفلسطيني اخترق شاشات العالم، وكشف عري الإمبراطور الأخلاقي الغربي.

مستقبل الصراع: من الخرائط إلى وعي الأجيال

القرن القادم لن يُقاس بخريطة الحدود، بل بخريطة الوعي. إسرائيل، رغم قوتها العسكرية، تواجه أزمة وجودية داخليا؛ لم تعد قادرة على تبرير احتلالها أمام جيل عالمي يرى الحقيقة مباشرة عبر الكاميرات والهواتف.

أما الفلسطينيون، فرغم الألم، فقد امتلكوا ما هو أخطر من السلاح: الرواية، فحين تملك الرواية، لن تستطيع قوة في الأرض أن تسرق حقيقتك.

الاعتراف المتأخر.. والضمير العالمي

هناك لحظة قادمة لا بد أن تحدث، حين تضطر بريطانيا والعالم للاعتراف أن ما حدث في 1917 لم يكن وعدا، بل جريمة تاريخية مكتملة الأركان. حينها فقط، سيتحرر التاريخ من عقدة الصمت.

حتى ذلك الحين، سيبقى الفلسطينيون حاملين مشعل الحقيقة، وصوت الميدان، وصورة ناجي العلي، وكلمات هيكل، لتذكير العالم أن التاريخ يُكتب بالدم، وليس بالحبر وحده.

وفي الختام: الوعد لم يمت.. لكنه انقلب

بعد 108 أعوام على وعد بلفور، يتبيّن أن الوعد لم يتحقق كما أراده أصحابه. قامت إسرائيل، لكن فلسطين لم تمت، الهوية لم تُمحَ، والذاكرة لم تُمحَ، والإيمان بعدالة القضية صار أوسع من كل الجغرافيا.

في كل مخيم، وفي كل حجر يُقذف، وفي كل طفل يصرخ تحت الركام، هناك كتابة جديدة لوعد مضاد: "وعد الأحرار بأن فلسطين ستبقى".

إذا أعطى بلفور ما لا يملك لمن لا يستحق، فإن وعد القرن الجديد أن الشعوب ستستعيد ما تملك، ولو بعد مئة قرن. "بعد 108 أعوام على وعد بلفور، لا يزال الدم الفلسطيني يكتب الحقيقة التي حاول العالم طمسها، والفلسطينيون صامدون كحجر لا ينكسر".
التعليقات (0)

خبر عاجل