قضايا وآراء

الدولة المارقة لا يدعمها إلا مارق

محمد جميل
لعل أبرز ما اجترته وكررته في رأيها المعارض أن إسرائيل، وهي كقوة احتلال، يعطيها القانون الدولي امتيازات ومركز سيادة لا يلزمها التعاون مع الأمم المتحدة وأجهزتها.. (محكمة العدل الدولية)
لعل أبرز ما اجترته وكررته في رأيها المعارض أن إسرائيل، وهي كقوة احتلال، يعطيها القانون الدولي امتيازات ومركز سيادة لا يلزمها التعاون مع الأمم المتحدة وأجهزتها.. (محكمة العدل الدولية)
بدون خجل أو وجل جلست القاضية جوليا سيبوتيندي على يمين الرئيس في منصة أعلى سلطة قضائية في العالم ـ محكمة العدل الدولية ـ بصفتها نائبًا للرئيس، مؤكدة معتقدها الذي كشفت عنه في مساندتها المسيانية لإسرائيل، لتعترض على معظم الطلبات التي تضمنها الرأي الاستشاري في قضية "الآثار القانونية المترتبة على القيود التي تفرضها إسرائيل على المساعدات الإنسانية، وعلى التزاماتها بوصفها قوة احتلال في قطاع غز" الصادر بتاريخ 22/10/2025.

موقف القاضية ليس رأيًا قانونيًا يستمد من قواعد القانون الدولي الذي كُلّفت المحكمة بحمايته والتأكد من سلامة تنفيذه، إنما رأيًا مستمدًا من كتب دينية وخرافات كشفت عنها في قرارات سابقة، أبرزها التدابير الاحترازية التي فرضتها المحكمة في قضية الإبادة التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل، وفي الرأي الاستشاري الذي أصدرته المحكمة في طبيعة احتلال الأراضي الفلسطينية.

في ظل عمليات القتل والتهجير والتجويع والتدمير التي هزت عالم الحيوان قبل البشر، عارضت كل التدابير الاحترازية التي تضمنها قرار المحكمة الصادر بتاريخ 26/01/2024 نزولًا عند معتقداتها المريضة، حيث اعتبرت التدابير التي أجمع عليها القضاة بإلزام إسرائيل بإدخال المساعدات الإنسانية وعدم استهداف المدنيين والمشافي، وإلزامها باتخاذ تدابير تمنع الإبادة، لا أساس لها في القانون الدولي الإنساني، ولا يوجد ما يلزم إسرائيل في ظل ما تعرضت له من هجوم في السابع من أكتوبر 2023، كما عارضت التدابير الاحترازية الثلاثة التي تضمنها القرار الصادر بتاريخ 24/05/2024 وأكدت على التدابير السابقة ودعتها إلى وقف العملية العسكرية في رفح.

وفي الرأي الاستشاري الصادر بتاريخ 19/07/2024 عن المحكمة والمتعلق "بالعواقب القانونية الناجمة عن سياسات وممارسات إسرائيل في الأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية"، رأت أن هذه أراضٍ متنازع عليها، وشككت في وجود شعب اسمه فلسطين وأرض اسمها فلسطين، مستندة إلى روايات توراتية وتلمودية، بل ضمنت رأيها اقتباسات من آراء صهاينة لم تذكرهم كمرجع كما تقتضي الأمانة العلمية.

في هذه المرة، وبعد النقد الواسع، وخاصة بعد خطاب لها بتاريخ 10 أغسطس 2025 في إحدى كنائس أوغندا كشفت فيه معتقدها الديني تجاه إسرائيل حيث قالت: "إن الرب يعتمد عليّ في الوقوف إلى جانب إسرائيل…"، اتخذت موقفين متعارضين بشكل صارخ في الرأي الاستشاري الجديد. ففي حين أجمعت مع القضاة على ضرورة التزام إسرائيل بأحكام القانون الدولي وإدخال المساعدات اليومية، عارضت كل الطلبات المتعلقة بإلزام إسرائيل التعاون مع أجهزة الأمم المتحدة المكلفة بإدخال المساعدات وفتح مكاتب لها واحترام حصانات العاملين فيها.

هي أرادت من ذلك تضليل الجمهور الواسع الذي ربما لا يتابع تفاصيل موقفها العقائدي، بأنها قاضية كباقي القضاة مع تطبيق أحكام القانون الدولي الإنساني، وفي الوقت نفسه أرادت توجيه رسالة للإسرائيليين بأنها تقف معهم، وأنها من موقعها ـ كما أراد الرب ـ ستفعل كل ما بوسعها للتشويش على آراء المحكمة وقراراتها وإفراغها من مضمونها.

الإجماع السائد داخل المحكمة وخارجها أن إسرائيل دولة مارقة، وأن كل من يدعمها ويبرر جرائمها هو مارق مثلها. لكن أن يكون هذا المارق قاضيًا ونائبًا لرئيس المحكمة، فهذا يقوض عملها ويشوّه سمعتها، مما يقتضي أن تعمل المحكمة على تطهير نفسها بالاستجابة إلى طلبات العديد من الدول والمنظمات لفتح تحقيق معها وفقًا لنظام المحكمة تمهيدًا لعزلها.
ولعل أبرز ما اجترته وكررته في رأيها المعارض أن إسرائيل، وهي كقوة احتلال، يعطيها القانون الدولي امتيازات ومركز سيادة لا يلزمها التعاون مع الأمم المتحدة وأجهزتها، ومن حق إسرائيل أن تتخذ قرارات تحميها إن شكّلت هذه المنظمات خطرًا على أمن إسرائيل، على غرار القرار الذي اتخذته ضد الأونروا بإنهاء أعمالها وإغلاق ومصادرة مكاتبها في القدس بادعاء أنها مخترقة من قبل فصائل فلسطينية. والمثير أنها تعتبر هذه الإجراءات لا تحمي فقط الاحتلال، إنما تحمي السكان الخاضعين للاحتلال.

هذه قاضية لا تهرطق فقط، إنما مفصولة عن الواقع. فهي عندما تتحدث أن الاحتلال يحمي المدنيين، فهذا يعني أن معتقدها يجعلها تذهب بعيدًا حد إنكار حقائق ووقائع موثقة بتقارير أممية. فالاحتلال الذي تدّعي أنه يحمي المدنيين من منظمات أممية، إضافة إلى ما يقوم به من القتل والتدمير، يطلق عصابات المستوطنين يوميًا تحت حماية قوات عسكرية ليقتلوا وينهبوا ويحرقوا ويعتدوا على الناس ويسيطروا على أراضٍ لإقامة بؤر استيطانية.

الإجماع السائد داخل المحكمة وخارجها أن إسرائيل دولة مارقة، وأن كل من يدعمها ويبرر جرائمها هو مارق مثلها. لكن أن يكون هذا المارق قاضيًا ونائبًا لرئيس المحكمة، فهذا يقوض عملها ويشوّه سمعتها، مما يقتضي أن تعمل المحكمة على تطهير نفسها بالاستجابة إلى طلبات العديد من الدول والمنظمات لفتح تحقيق معها وفقًا لنظام المحكمة تمهيدًا لعزلها.

المحكمة ليست بحاجةٍ إلى ما يعزز فقدان الثقة بعملها بسبب عدم احترام آرائها وقراراتها المتعاقبة من قبل إسرائيل، ليضاف إلى ذلك عامل آخر من داخل المحكمة ذاتها، قاضية مسكونة بمعتقدات تستخدم المحكمة وتستغلها لتدافع عن دولة تعمل صباح مساء على تقويض الأسس التي تقوم عليها.
التعليقات (0)