قضايا وآراء

الدواعش الحقيقيون

محمد جميل
لقد تجاهلوا الدواعش الحقيقيين من جيش الاحتلال الذين ظهروا وهم يتباهون في تفجير المربعات السكنية، واعتقلوا المئات ليحشروهم في ملاعب وحفر عراه ثم ينقلونهم إلى السجون ليختفوا قسريًا.. الأناضول
لقد تجاهلوا الدواعش الحقيقيين من جيش الاحتلال الذين ظهروا وهم يتباهون في تفجير المربعات السكنية، واعتقلوا المئات ليحشروهم في ملاعب وحفر عراه ثم ينقلونهم إلى السجون ليختفوا قسريًا.. الأناضول
تسببت الحرب الكونية على قطاع غزّة بإبادةٍ جماعية راح ضحيتها أكثر من سبعين ألف إنسان، وأصيب فيها عشرات الآلاف، وتعرّض القطاع لتدميرٍ شامل. خلال المقتلة ظهرت فئة من ضعاف النفوس الذين تعاونوا مع الاحتلال، فشاركوا في القتل والنهب والخطف، وهناك أيضًا من التجّار من لا يقلّ جرمهم عن جرم أولئك المتعاونين، إذ استغلّوا حالة الحصار والجوع فاحتكروا السلع الأساسية ورفعوا الأسعار إلى مستويات مرعبة دون أدنى رحمةٍ أو شفقة.

كما يحدثنا التاريخ القديم منه والحديث، ما تكاد تنتهي الحروب حتى يسارع العدو إلى التخلّي عن عملائه وتركهم يواجهون مصيرهم المحتوم، وهذا ما فعله الاحتلال في قطاع غزة في الدقائق الأولى لدخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ تمامًا كما فعل مع جيش لحد عندما انسحب بشكل مفاجئ من جنوب لبنان عام 2000.

في كل الأحوال الإعدامات الميدانية مرفوضة في كل الظروف ويجب أن يحظى المتهم بمحاكمة عادلة وفق ما يقتضيه القانون مهما عظم ذنبه، فلا يجوز أن تسيطر الانفعالات والغضب عند التمكن من أشخاص أساءوا للمجتمع سواء في السلم أو في الحرب. فالانضباط والتمسّك بحكم القانون هو ما يميّز رجال إنفاذ القانون عن هؤلاء المجرمين ويعطي صورة مشرقة للمجتمع بأنه حضاري ومتماسك لا تخلخل بنيته أفعال هؤلاء.
تشير الأرقام إلى وجود بضع مئات من الفئتين معًا من العملاء والمحتكرين الذين استغلّوا حاجات الناس، ورغم حجم الكارثة التي تسبب بها هؤلاء، فإنّ موجة الانتقام ظلّت محدودة، واقتصر العقاب الميداني على عددٍ قليلٍ من العملاء المتورطين مباشرة في أعمال القتل فقط بعد إجراء محاكمات ميدانية.

لم نشهد انتقامًا واسعًا كما كان متوقعًا، بل تغلّبت مشاعر الصبر والترفع على الجراح، وليس هذا تبريرًا لعمليات الإعدام الميدانية، بل توضيحًا للظروف الاستثنائية التي يعيشها الناس بعد حروبٍ مدمّرة، حيث يصعب ضبط الانفعالات في البداية، لكن ما حدث في غزة يُعدّ استثناءً في ضبط النفس مقارنة بما جرى في أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

فحين حُررت أوروبا من الاحتلال النازي، اندلعت موجة عنفٍ شعبي عُرفت في فرنسا باسم “épuration sauvage” أي التطهير الوحشي، حيث أُعدم آلاف الأشخاص ميدانيًا دون محاكمة، نُفذت عمليات قتل علنية بحق من اتُّهموا بالتعاون، خصوصًا النساء اللواتي اتُّهمن بعلاقاتٍ مع جنودٍ ألمان، كما حُلقت رؤوس كثير من النساء وأُهِنَّ علنًا في الشوارع.

للأسف، خلال هذه الحروب الدموية، يحدث خللٌ طارئ في البنية الاجتماعية بسبب استهداف الاحتلال للنسيج الاجتماعي لتحقيق أهداف عسكرية، وغزة ليست فريدة في مثل هذه الظروف؛ وحدة المجتمع وتلاحمه غير المسبوقين طوال سنتين من الإبادة جعلها هدفًا للاحتلال فاستُخدمت كل الوسائل الخبيثة لتمزيقها عبر نشر الشائعات وتشكيل عصابات بالترغيب أو الترهيب، ووصل الأمر أن ضباط المخابرات اتصلوا على عائلات كاملة ومخاتير وشيوخ وطلبوا منهم التعاون، فإن هم رفضوا فإن مساكنهم تُقصف بالصواريخ.

على سبيل المثال لا الحصر، يوم السابع والعشرين من سبتمبر 2025 اتصلت المخابرات بأفراد من عائلة بكر الكائنة في مخيّم الشاطئ غرب مدينة غزة وعرضت عليهم البقاء في أماكنهم آمنين مقابل التعاون وتشكيل ميليشيا على غرار عصابة "أبو شباب" في رفح. رفضت العائلة رفضًا قاطعًا، وفي فجر اليوم التالي وجّه الاحتلال صواريخه إلى منازل العائلة مما أدى إلى استشهاد تسعة من أفراد العائلة بينهم نساء وأطفال.

تصدر حدث الإعدامات المحدودة واقتحام أوكار العملاء عناوين الصحف ونشرات الأخبار في الغرب رابطين إياها بالرواية التي صدرها الاحتلال في بداية الإبادة عن إعدام النساء والأطفال ليقولوا لنا "إن هؤلاء هم الدواعش الذين حدثناكم عنهم وما حدث دليل على صدق روايتنا". في كل المشهد الكارثي الذي تبين بعد أن هدأ القصف لم يهم هؤلاء إلا هذا الحدث المعزول، فبدلًا من أن يشدوا الرحال إلى قطاع غزة ويضغطوا للدخول إلى القطاع الذي منعوا من دخوله طوال سنتين ليشاهدوا بأم أعينهم ما فعلته آلة التدمير في القطاع، عادوا إلى سيرتهم الأولى ليَسْطُوا على الحقيقة مرةً أخرى في محاولة يائسة لتشويهها.

نفاق هؤلاء وإصرارهم على شيطنة سكان القطاع لإظهار الكيان وعملائه بأنهم أبرياء جعلهم يتجاهلون أطنان القنابل التي أسقطت على قطاع غزة وحولته إلى رماد وتسببت بقتل وجرح عشرات الآلاف وتهجير الناس وتجويعهم، ليركزوا على حدث معزول لأن فيه ما يستفز وعي الناس الذي راعه قصص الذبح والإعدامات الميدانية التي نفّذتها داعش في العراق وسوريا لدعم روايتهم المضللة المكذوبة.

وفاءً للتضحيات العظيمة التي قدّمها الشعب الفلسطيني طوال سنتين من الإبادة، يجب الابتعاد عن أي أفعال يمكن استغلالها في تزوير الوعي وتشويه الحقيقة. نريد أن تُروى سيرة التضحية والبطولة خلال الإبادة بدون أي شائبة تشوبها، بما يعبر عن وحشية الاحتلال وكل من تعاون أو تواطأ معه.
لقد تجاهلوا الدواعش الحقيقيين من جيش الاحتلال الذين ظهروا وهم يتباهون في تفجير المربعات السكنية، واعتقلوا المئات ليحشروهم في ملاعب وحفر عراه ثم ينقلونهم إلى السجون ليختفوا قسريًا، وبعد الإفراج عن بعضهم وخاصة بعد الاتفاق الأخير روى هؤلاء قصصًا مرعبة عن التعذيب، منها ما أدى إلى الإصابة بعاهات مستديمة ومنها ما أودى بحياة بعضهم في عملية تصفية ميدانية بدم بارد، وقد شاهدنا الجثث التي سلّمها الاحتلال وعليها آثار تعذيب وحشية وحبال رُبِطت على أعناقهم، ومنهم من سرقت أعضاؤه.

الحقيقة المُرة أننا نجد أنفسنا مجبرين على تسليط الضوء على مشاهد معيّنة من الإبادة لإثبات أن هؤلاء هم الدواعش الحقيقيون بل أساتذتهم للرد على الدعاية الكاذبة. فقد علِق في أذهان الناس ووعيهم أن القتل ذبحًا بالسكين أو بإطلاق النار من المسافة صفر هو ما يُطلق عليه القتل "بدم بارد" ـ الجريمة التي لا تُغتفر ـ لكن ماذا عن القتل قصفًا طوال سنتين وبشكل جماعي بضرب مربعات سكنية كاملة فيُقتل النساء والأطفال وتُقطع أوصالهم وتذوب جثثهم؟ فهل هذا قتل “بدم ساخن”؟ وقعُه على النفس مختلف لا من جانب الفعل نفسه إنما من نتيجته.

سحقًا للدعاية التي رسخت في عقول المغفلين أن هذا الفعل يختلف عن ذاك، فمن لديه استعداد نفسي لإلقاء أطنان من القنابل على المدنيين فيقتل النساء والأطفال ويدمّر المساكن والمدارس والمشافي لا يختلف عمن يستخدم سكينًا أو بندقية في القتل، فكلا الفعلين يعبران عن نفس إجرامية واحدة لديها استعداد للقتل قصفًا وقنصاً وذبحاً وحرقاً.

منصات وصحف وفضائيات التطبيع العربية التي روّجت من البداية لرواية الاحتلال ودعمته كانت أكثر نهمًا في تناول الحدث على أنّه فعل “داعشي” لتأجيج الفتنة وتحريض السكان على الاقتتال، والمثير أن هؤلاء استضافوا في برامجهم قيادات عشائرية وشيوخًا من القطاع ظنّوا أنهم سيتماهون مع روايتهم التي تصف المجرمين بالمعارضين والمدنيين الأبرياء، وإذا بهم يحطمونها ويفندونها شارحين خطورة هذه العصابات وما ارتكبوه من جرائم.

وكانت المفاجأة تصريحات ترامب التي أخرست الجميع، حيث عبّر عن رضاه عمّا جرى وأنه هو من سمح بذلك لمواجهة عصابات خطيرة، مشيرًا إلى "أنه لا يجد في ذلك ما يزعجه كثيرًا" وأضاف أن هذا الأمر يذكّره بما حدث مع دول أخرى، مثل فنزويلا، حيث تعاملت الولايات المتحدة مع العصابات الفنزويلية التي أرسل بعضها إلى أمريكا بنفس الأسلوب.

أصابت تصريحات ترامب، كما قال أحدهم، بالاكتئاب وجعلته في حيرة من أمره لا يدري ما يقول بعد أن فند سيده روايته، وهو الذي خلال الإبادة كتب مقالات تشرعن الإبادة ولم يترك أحدًا من المشعوذين ـ منهم مسؤولون إسرائيليون ـ إلا واستضافه في برنامجه ليتحدثوا للجمهور العربي بكل وقاحة عن مظلمة المحتل الذي يرتكب الجرائم باعتبارها مشروعة ودفاعًا عن النفس.

في كل الأحوال الإعدامات الميدانية مرفوضة في كل الظروف ويجب أن يحظى المتهم بمحاكمة عادلة وفق ما يقتضيه القانون مهما عظم ذنبه، فلا يجوز أن تسيطر الانفعالات والغضب عند التمكن من أشخاص أساءوا للمجتمع سواء في السلم أو في الحرب. فالانضباط والتمسّك بحكم القانون هو ما يميّز رجال إنفاذ القانون عن هؤلاء المجرمين ويعطي صورة مشرقة للمجتمع بأنه حضاري ومتماسك لا تخلخل بنيته أفعال هؤلاء.

أخيرًا، وفاءً للتضحيات العظيمة التي قدّمها الشعب الفلسطيني طوال سنتين من الإبادة، يجب الابتعاد عن أي أفعال يمكن استغلالها في تزوير الوعي وتشويه الحقيقة. نريد أن تُروى سيرة التضحية والبطولة خلال الإبادة بدون أي شائبة تشوبها، بما يعبر عن وحشية الاحتلال وكل من تعاون أو تواطأ معه.
التعليقات (0)