كتاب عربي 21

ترامب ليس صانع سلام

نور الدين العلوي
"اتفاق ترامب لم يبرم ضمن خطة سلام بل ضمن إعادة انتشار عسكري"- البيت الأبيض
"اتفاق ترامب لم يبرم ضمن خطة سلام بل ضمن إعادة انتشار عسكري"- البيت الأبيض
لن يصنع ترامب سلاما في الشرق الأوسط؛ نكتبها بـ"لن" زمخشرية. لم ننخدع بخطابه لكن شفقتنا على أهل غزة زيّنت لنا ولفترة قصيرة وهم سلام سيحل بعد اتفاق غزة. لقد خف القتل مؤقتا وتنفس الناس هواء بلا بارود ولفترة نرى نهايتها قريبة، لكن هذا الدعيّ لن يبلغ مبلغ الزعماء الذين يصنعون السلام في العالم، إن الأهوج الذي يغير رأيه بمكالمة هاتفية لا يملك كاريزما صناع السلام.

لقد لفلف كبائع السندويشات اتفاقا هشا وترك للعدو فجوات عودة للحرب؛ بما يؤجل أولا خلاص غزة من القهر ويؤجل أو يلغي ثانيا بناء سلام شامل في المنطقة على هذا الاتفاق الملفلف. فكل بؤر التوتر لا تزال مشتعلة أو هي تستعد لحرب قريبة، وهذا يفتح على وضع تصورات بعيدة المدى لمستقبل المنطقة خارج خطط ترامب وخطط الكيان اللقيط، أي استعداد لحروب أكبر تصنع تحولات استراتيجية، ولكن من لها الآن وغدا؟ فهذه أمور تسهل كتابتها روائيا، لكن تنزيلها على الأرض يحتاج قوما غير القوم الذين زغردوا لاتفاق ترامب وعلقوا له الأوسمة.

كل بؤر التوتر لا تزال مشتعلة أو هي تستعد لحرب قريبة، وهذا يفتح على وضع تصورات بعيدة المدى لمستقبل المنطقة خارج خطط ترامب وخطط الكيان اللقيط، أي استعداد لحروب أكبر تصنع تحولات استراتيجية

الكيان لا يزال حجر الزاوية في سياسات الغرب (الترامبي)

نتابع من قريب حراك الشوارع الأوروبية المساند لغزة، ونراقف تحول خطابها من التعاطف الإنساني الظرفي مع الضحايا إلى طرح بدائل سياسية داخل دول الغرب نفسه؛ تتجه إلى عزل الكيان ومحاسبته بما ينتهي إلى إخراجه من دائرة التأثير على السياسات الغربية نفسها، أي ينهي عمليا دوره الذي صُنع وزرع من أجله في المنطقة. لكن موقف الشوارع وكثير من النخب لم يصل بعد إلى التأثير على القرار السياسي الأوروبي، فحكومات الغرب التي تنكر الإبادة لا تزال تناور مع شوارعها وقد تصطدم بها في هذه النقطة، كما أن الشوارع لم تبلغ مواسم انتخابية تغير بوسائل الديمقراطية طواقم الحكم والقرار. (رغم تفاؤلنا بهذه الشوارع، فإن التعويل على تغيير سريع في القرار السياسي ليس بسهولة تنظيم مظاهرة ولو مليونية).

هنا يظهر ترامب يلقي فضلاته على شوارعه وشوارع العالم، وترجمة فعله هو أن صوت الشوارع لن يُسمع، وتأثيرها لن يبلغ مبلغ تغيير السياسات. وهو بما يفعل ويقول لا يتجه إلى صناعة السلام بل لاستدامة الحرب، إنه يحالف كل حكومة ترفض سماع شارعها، فيهدد المثال الإسباني المختلف ويصطنع حربا بل حروبا مع أمريكا اللاتنيية؛ حيث تشكل وعي عميق معاد للكيان في المستويين الحكومي والشعبي. لم يخرج ترامب الفهلوي عن خط سياسات أسلافه في دعم الكيان بكل السبل المتاحة، وما اتفاق غزة عنده إلا تأجيل معركة فاقت كلفتها تقديرات اللحظة ويمكن إعادة شحن المخازن لاستئنافها، أما تعديل موقع الكيان في المنطقة ليكون في غير عداء دائم معها فليس على خطة الأمريكي ولا خطط الحكومات الغربية. فرِحون الآن مع الغزواية بـ"شوية" الهواء، لكن استئناف الحرب يلوح في الأفق لأن اتفاق ترامب لم يبرم ضمن خطة سلام بل ضمن إعادة انتشار عسكري.

المنطقة على برميل بارود

كل المنطقة العربية تحتاج هواء بلا بارود ولكنها جالسة على برميل بارود، فبلدان الربيع العربي التي ذاقت حلاوة الحرية لم تنس طعمها ولكنها مضغوطة بصنائع حكم ضمن خطة إخضاع العرب دولا وشعوبا للكيان. لا نسلم بصدق إعلام الأنظمة الذي يروج لرخاء تحت حكم العسكر؛ الرخاء مفقود والتنمية غائبة والحريات مطعونة، والشعوب تتربص بانفجار لا يمكن لأكبر حكماء السوسيولوجيا توقع مكانه وتاريخه. لو كان ترامب صانع سلام حقيقي لانتبه إلى هذا الانفجار المرتبص واستبقه بما يهدئ المنطقة ويخلق آفاق تعاون معه ومع الغرب برمته، فشعوب المنطقة ليست مغرمة بالحروب.

هناك توجس وريبة شعبية تجاه الصين التي تتقدم بهدوء في المنطقة وتعرض خدمات بقفازات من حرير، لكن لا ترامب ولا أحد من صفه يستفيد من هذا التوجس فيفتح نوافذ حوار تبقي على العلاقات التاريخية بين العرب والغرب.

المطلوب تغيير في العمق يذهب إلى معاملة الشعوب العربية على أنها شعوب نضجت للديمقراطية ويمكنها بناء تجاربها بقدراتها ضمن سلام حقيقي. هنا يتخلف ترامب عن الموعد ويبقي المنطقة على برميل البارود، ليتصرف في نتائج الانفجات بعقلية محارب يثق في سلاحه فقط ولا يحترم حقا ولا وجودا. هنا يقترب الانفجار وتنتهي خدعة السلام الترامبي، هنا يقرر كل مواطن عربي (ولو لم يكن غزاوي الهوى) هذا الترامب عدوّا.

الحروب المؤجلة لن تتأخر كثيرا
نعيد اكتشاف الخطة الصهيونية الأولى ينفذها ترامب كما نفذها أسلافه، يسقط من خواطرنا كل وهم توهمناه بصانع سلام يصطنع التبسم. لم ينته دور الكيان من خطة الغرب الأصلية، فيصبح اتفاق غزة خطوة صغيرة ضمن الخطة القديمة؛ تهدئة الحرب أياما قليلة للسماح بترميم الكيان وإعادته إلى ظهر الدبابة

هناك حرب حتمية في سوريا يؤجلها الحكام الجدد ليرمموا بيوتهم وليدفنوا موتاهم، لكن أرضهم محتلة ولا يمكن لأي مسالم أن ينسى الاحتلال ولو تمسكن مثل قط جائع. وهناك حرب في العراق بذرت أمريكا بذورها وأدارت صمتها لكن إلى حين، فالعراق في حالة هدر شامل للطاقات والإمكانات، وهذا وضع غير قابل للبقاء الأبدي. بذور الانفجار العراقي تنمو تحت احتلالين قاهرين، أمريكي وإيراني، مما يسرع انفجارها. متى وأين؟ لا يمكننا الإجابة، ولكن نعرف أن ترامب يعرف الوضع ويستديم حالة ما قبل الانفجار ليستفيد من فوضى قد تحدث بعده، وهذا ليس فعل صانع سلام بل صائد جثث بعقل ضبع.

عقل الضبع حاضر في ترتيب العلاقة مع إيران (قوة احتلال للعراق)، ولكنها هدف لحرب ترامبية. أنصار إيران يقتحموننا بحديث السلاح وحسن الاستعداد، ولكن هذا ليس موضوع ورقتنا، إنما نتتبع خطة صانع السلام المزيف الذي يفكر في حرب إبادة في إيران. السلام الغربي مع إيران يفتح على احتمال سلام مع جيرانها العرب، ولكن هذا السلام مرفوض. نفس الخطة الغربية، منع المنطقة من تملك قراراها وقيادة شعوبها كما تريد. السلام عدو لترامب وترامب عدو للسلام.

ننظر إذن للمنطقة من علٍ لنتجاوز التفاصيل الصغيرة، فنرى منطقة في حالة استعداد لحرب دائمة يؤجل فيها كل ما هو خير للشعوب؛ لا سلام ولا استقرار ولا تنمية ولا حريات ولا ديمقراطية. نعيد اكتشاف الخطة الصهيونية الأولى ينفذها ترامب كما نفذها أسلافه، يسقط من خواطرنا كل وهم توهمناه بصانع سلام يصطنع التبسم. لم ينته دور الكيان من خطة الغرب الأصلية، فيصبح اتفاق غزة خطوة صغيرة ضمن الخطة القديمة؛ تهدئة الحرب أياما قليلة للسماح بترميم الكيان وإعادته إلى ظهر الدبابة.

يبقى أمام الشعوب وإن تماوتت أو أملت نجدة من شوارع الغرب خطة واحدة: خطة غزة، فإن لم تسر سير غزة فحق لترامب أن يرمي عليها فضلاته الافتراضية والحقيقية. صناعة السلام ستأتي من حرب شاملة تُعلّم ترامب (كل الترامبات) أن ينظر إلى الشعوب باحترام ثم ينكفئ إلى مربعه الخاص؛ زمنئذ يمكن التفاوض على سلام شامل.
التعليقات (0)