كتاب عربي 21

إسرائيل لن تستطيع محاربة العالم

نور الدين العلوي
"هذا العالم يعيد بناء سياساته المحلية والعالمية"- الأناضول
"هذا العالم يعيد بناء سياساته المحلية والعالمية"- الأناضول
هذه أبلغ وأوضح وأعلى جملة سياسية ألقيت في وجه الكيان منذ تأسيسه، وهي الجملة التي تعلن نهايته المحتومة، وهي التي سيهرب منها طويلا حتى ينتهي فيها ويعلن انسحابه من التاريخ. ما زالت هناك مرحلة مكابرة وفيها مناورات بقاء كثيرة ودامية وانتقامية، لكن الجملة حملت إعلان نهاية لا ريب فيها. (يعجنبي هذا الترامب عندما يقعقع بالحقيقة مثل جمل منحور).

سأترجم هذه الجملة بهوى روائي فقد أحيتني الجملة وأحيت لغتي وأطلقت خيالي من موات طويل (قد يمن الله على جيلي الستيني بزيارة القدس بعد طول انتظار).

إعادة بناء السياسة العالمية دون الكيان

إني رأيت هذا العالم يعيد بناء سياساته المحلية والعالمية انطلاقا من واقع ليس فيه الكيان وليس فيه جماعات الضغط التي تخدمه من وراء ستار، وليس فيه إعلام يقدم حق الكيان على حق الشعوب في الحياة.

تسري نار التغيير في مناطق وبلدان كثيرة، لقد تحولت خدمة الكيان إلى عار مكلف انتخابيا، ولكنه مكلف ماليا أيضا

يقول سياسي يساري فرنسي يتقدم للرئاسة أو للبرلمان: يمكنني الفوز بدون المرور بمكاتب جمعيات الصداقة الفرنسية الإسرائيلية؛ هناك أصوات متاحة يمكن استقطابها في الصندوق، أصوات المهاجرين العرب والمسلمين، وهي أكثر من أصوات المثليين والصهاينة (وهاتان الفئتان تصوتان دوما لصالح الكيان). آه، يمكنني أن أعدل بعض الخطاب؛ الإسلام ليس أفيون الشعوب بل هو دين تحرر. يمكنني المرور بمسجد باريس أيضا. فرنسوا بورغات "الإسلاموقوشيست" لم يكن على باطل في ما يصدح به من قول حول احترام المسلمين. الإسلاموفوبيا لم تعد تنتج شيئا في الصندوق. يمكنني زيارة غزة عوض تل أبيب، سأرفع في نبرة الخطاب وأطرح مشاريع من قبيل مراجعة العلاقة مع الكيان، فإذا زايد علي أحد أقول بقطع العلاقة من جذورها.. فجاري الإسباني يفعل وشعبه يحبه. لا بأس أن يشعر العرب هنا أن غزة حررتهم، فالفرنسيون الأصليون يشعرون بذلك أكثر منهم.

يقول سياسي ألماني عاش من التعويض عن الهولوكوست: هذا الجيل الألماني ليس مذنبا والجريمة تمت قبل ميلاده، فلماذا أُلزمه بدفع التعويض وأوقر ضميره بجريمة لم يرتكبها؟ يمكنني مخاطبته ببراءته وتحرير ضميره من الإثم التاريخي؛ لماذا يدفع من حر ماله للكيان الذي ارتكب هولوكست آخر؟ لأحدثه عن ألمانيا أولا وأنقذ فوكسفاجن من السيارة الصينية، وهؤلاء المهاجرون المسلمون من تُرك وكرد وعرب لماذا لا أمنحهم حقا كاملا في التصويت؟ لأغير إذن قواعد الانتخاب.

يقول سياسي إنجليزي: لقد خدمنا الكيان كثيرا منذ الوعد المشؤوم. إن المزيد من خدمته يكلفنا كثيرا، وهذا الجمهور المتنمر ضده لن يهدأ حتى يفرض شروطه، فلأستبق الجمهور بميل كامل نحو نقد وعد بلفور وأقول إنه كان غلطة حكمتها ظروف اللحظة.

وتسري نار التغيير في مناطق وبلدان كثيرة، لقد تحولت خدمة الكيان إلى عار مكلف انتخابيا، ولكنه مكلف ماليا أيضا.

ترميم الكيان أعلى كلفة من إنشائه أول مرة

الذين لن يطاوعوا خيالي ويستسخفونه سيقولون في كواليس السياسة: لنرمم الكيان فيواصل دوره الذي أُنشئ من أجله، فهؤلاء العرب لا قيمة لهم، ولنواصل تحقيرهم وامتهانهم بالكيان والعملاء الذين زرعناهم لحكمهم.

سيُطرح السؤال التالي: كم سيكلفنا الترميم؟ ويمسكون آلاتهم الحاسبة ويبدأون (على طريقة عادل إمام في الولد سيد الشغال وهو يحسب كلفة الصحون المكسورة)؛ المزيد من السلاح والذخيرة والأموال والتبادل التجاري والترضيات الإعلامية على حساب وعي شعوب منتبهة مثلما لم تنتبه أبدا. كيف يمكن إقناع هذه الشوارع الهائجة ضد الكيان؛ وجرائمه العارية والمحاكم الدولية تتربص؟ سيتبعون طريقة الإيطاليين مع حكومتهم. لا نريد أن ننتهى مثل ميلوزفيتش. كل ما ينتجه الكيان له بديل في السوق، من حبة الفراولة إلى الشرائح الذكية، بل هناك الصين وهي غير بعيدة. بل يمكننا ترميم صناعتنا بما سندفع للكيان، نحن في أزمة والركود مخيم والاقتطاع للكيان أرهقنا، لنعِد التفكير والحساب. ترميم هذا الكيان من أجل نفس الدور سيكون أعلى كلفة من انشائه. ماليا وسياسيا. فالجمهور مال عليه ولن يصوت لمن ينافق من أجله. ما بديل الكيان؟ لنفكر مرتين، تلك الأنظمة الفاسدة كم كلفتنا لتبقى فاسدة وشعوبها مقموعة؟ ماذا لو نحاور تلك الشعوب، لعل في الديمقراطية هناك بعض فرج لنا هنا. هنا يسأل سياسي عربي نفسه: ماذا سأفعل إذا لم أخدم الكيان؟

ما جدوى التطبيع؟

يقول سياسي عربي في غرفة نومه: انتهى دوري، أنا كلينكس مستعمل. الكيان المهشم لن يجد وقتا لدعمي في مكاني، لم يعد محتاجا إلى حراس، لقد انكمش في حدوده. لن يشن حروبا مخيفة كنت أبرر بها التوازن الاستراتيجي معه. استقر الوضع على كيان منكمش لا يحارب العالم، فبماذا سأبرر بقائي أمام شعب مقهور؟

ماذا لو ذهبت إلى البيت الأبيض عارضا المساعدة؟ سيقول لي الترامبيون (وهم قوم يتناسلون بعد الجملة إياها مثل الضفادع): "يا عمي شوفلك صرفة"، نحن نعاني في الداخل وجمهورنا يحاسبنا على كل طلقة نرسلها إلى هناك. ثم يرجمونه بجملة جديدة: "لماذا أنت في عداء مع جمهورك؟ هل جربت الديمقراطية؟". يعود خائبا من هناك ويطلق أبواقه عن الانفتاح والحرية، ويبدأ رحلة البحث عن شرعية في الداخل متظاهرا بمعاداة الكيان البغيض. توبة فرعونية في الغرغرة؛ الجمهور المقهور يتربص، والشرعية تعود إلى الصندوق الانتخابي، يرسل الدبابة إلى الثكنة ويفتح الصندوق الانتخابي. يرسل الكيان مخربيه الأنيقين متحدثين عن الفوضى التي تخلقها الديمقراطية (محاولة تخريب أخيرة). الجمهور منتبه، فقد مر بخيبة الربيع العربي وعرف من خربه. لن تمروا (ينطقها الجمهور بالإسبانية، لغة شعب صديق). بالجملة إياها انتهى التطبيع كسبب لشرعية السيطرة على السلطة بالدبابة والبقاء الأبدي باسم التوازن الاستراتيجي مع العدو. العدو لم يعد مخيفا؛ سلعة بارت ونفدت صلاحيتها.

الجمهور سيراقب انكماش الكيان وتحوله إلى كيان مغلق خائف من جيرانه، سيحسب كل فرد فيه مقدار خسائره بعد أن كان يحسب مقدار رفاهه. هذا الكيان لم يعد جنة موعودة

ستكون هناك مناورة أخيرة من الكيان، سيحاول فتح جبهات بعزاء دولة إسرائيل الكبرى لكن الجملة حاسمة، بعض معناها: لم تعد لنا ذخائر نرسلها لحرب بلا نهاية. نحن أيضا نحسب أموالنا وهي قليلة، والصين تسبقنا في السوق وقد تحاربنا. يقول الإيراني في حسينيته: لقد نجونا، ويقول السوري بنصف مليون بندقية: "الوقت مناسب للتربص للجولان المحتل"، يقول العربي المطبع: "لقد أفلت الأمر من بين يدي، سأركب موجة الثورية لعل أجد بقية من صندوق انتخابي". حتى عباس التنسيق الأمني المقدس قد يتناول فياغرا سياسية.

لعل في الديمقراطية بعض خير للشعوب

هنا وبالجملة إياها يبدأ الحديث الجاد عن الصندوق الانتخابي بعنوان كبير: استئناف الربيع العربي. لقد كان ثورة حق وغُدر بها، والغادر انهزم، والفضل لشهداء غزة. لقد ردوا على جملة "لن نترك غزة وحدها" بقول أبلغ وأفصح: "لن نترك العرب الصادقين وحدهم"، والسياسي الذكي والاستشرافي سيبني على الجملة إياها (العالم يمكن أن يعيش خارج إرادة الكيان ودون خدمته). العيش يمر عبر بناء شرعية الحكم بالصندوق. أين الصندوق أيها الحاكم المتذرع بحماية شعبك من الكيان؟ من سيطلق سراح الشوارع العربية سيحكم بلا خوف من الغدر الصهيوني. الجمهور سيراقب انكماش الكيان وتحوله إلى كيان مغلق خائف من جيرانه، سيحسب كل فرد فيه مقدار خسائره بعد أن كان يحسب مقدار رفاهه. هذا الكيان لم يعد جنة موعودة، إنه يتحول إلى كيان جحيمي. أين جواز سفري الأوروبي؟ ما علاقتي بالفلاشا والسفارديم؟ لأرحل.. ثم يجهز حقيبته على أول طائرة.

هل بالغت في الرواية؟ لا لم أبالغ لكني استعجلت التنفيذ وتحقيق البشارة، إنها بشارة الشيخ ذي الكرسي المتحرك الذي لم يُر غاضبا أبدا، ومصداق الشعار العظيم "دم الشهداء ما يمشيش هباء". لقد تغير العالم حتى أن ترامب أقر بذلك منحورا.
التعليقات (0)

خبر عاجل