كتاب عربي 21

حماس في الإعلام العبري.. من شيطنة المقاومة إلى الاعتراف بالقوة

حلمي الأسمر
كل حرب تكشف أن “العدو” لم يعد كاريكاتورًا، بل عقلًا يقاتل بعقيدة، ولسانًا يعرف متى يصمت ومتى يتحدث.. جيتي
كل حرب تكشف أن “العدو” لم يعد كاريكاتورًا، بل عقلًا يقاتل بعقيدة، ولسانًا يعرف متى يصمت ومتى يتحدث.. جيتي
في مرآة الإعلام العبري، لا تُرى حركة حماس كما تراها غزة أو العالم العربي، هناك، في عناوين الصحف العبرية الكبرى مثل يديعوت أحرونوت ومعاريف وهآرتس، تتقلب ملامح الحركة بين "الوحش الإرهابي" و"الخصم الماهر"، بين صورة الغول الذي يهدد الوجود الإسرائيلي، وصورة التنظيم الذي يجبر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على مراجعة حساباتها كل حرب، فكلما اشتعلت الجبهات، عاد الإعلام العبري إلى قاموسه المعتاد: "الإرهاب، الأنفاق، الظلام، جنون الدين، لكن ما إن تهدأ المدافع، حتى تتسرّب من بين السطور نبرة مختلفة:  "حماس تعرف ما تريد"، "قيادة صارمة ومنضبطة"، "جيش منظم يعمل وفق عقيدة قتالية متماسكة".

في هذا التناقض تتجلى مأساة السردية الإسرائيلية: كراهية لا تخفي احترامًا، وحرب نفسية تخشى أن تصدّق دعايتها!

أولًا ـ الشيطنة كأداة تعبئة

منذ تأسيسها، احتلت حماس موقع "العدو المثالي" في المخيال الإسرائيلي، الإعلام العبري قدّمها في التسعينيات كـ“وجه جديد للإرهاب الإسلامي”، مستفيدًا من المزاج الدولي بعد حرب الخليج وصعود خطاب “الإرهاب العالمي"، وفي كل عملية فدائية، كانت الصحف العبرية تستدعي مفردات توراتية ودينية لتؤطر المعركة في سياقٍ وجودي: "إنهم يريدون إفناءنا لأننا يهود"، "حماس تكره الحياة ونحن نحبها".

منذ تأسيسها، احتلت حماس موقع "العدو المثالي" في المخيال الإسرائيلي، الإعلام العبري قدّمها في التسعينيات كـ“وجه جديد للإرهاب الإسلامي”، مستفيدًا من المزاج الدولي بعد حرب الخليج وصعود خطاب “الإرهاب العالمي"، وفي كل عملية فدائية، كانت الصحف العبرية تستدعي مفردات توراتية ودينية لتؤطر المعركة في سياقٍ وجودي: "إنهم يريدون إفناءنا لأننا يهود"، "حماس تكره الحياة ونحن نحبها".
لكن خلف هذه اللغة اللاهبة، كان يتخفّى هدف سياسي واضح: نزع الشرعية عن أي مقاومة فلسطينية، وتحويلها من حركة تحرر وطني إلى ظاهرة دينية عابرة، لتُعفي إسرائيل نفسها من مسؤولية الاحتلال والاستيطان، هكذا تشكّلت الدعاية الأولى: “لسنا محتلين.. نحن ضحايا الكراهية"

ثانيًا ـ تعدد الخطابات داخل إسرائيل

لم يكن الإعلام العبري كتلة واحدة، فصحيفة يسرائيل هيوم (الموالية لنتنياهو) التزمت دومًا بخطاب الردع والمحو، داعية إلى “تصفية حماس نهائيًا” واعتبار غزة “إقطاعية إرهابية، بينما تناولت هآرتس والقناة 13 المسألة ببرود نقدي، محمّلةً القيادات الإسرائيلية مسؤولية خلق الوحش، كتبت هآرتس مثلًا بعد حرب 2021: "من لم يترك للفلسطينيين سوى الحصار واليأس، فلا يشتكِ حين يظهر أمامه تنظيم يعرف كيف يقاتل ويفاوض".

هذا الانقسام لم يكن مجرد تباين إعلامي، بل مرآة لانقسام أعمق في الوعي الإسرائيلي: بين من يرى في حماس تهديدًا أبديًا يجب سحقه، ومن يراها نتيجة لسياسات الغطرسة والعزلة.

ثالثًا ـ من العصابة إلى “الجيش المنظم"

منذ حرب 2014، بدأت المفردات العبرية تتغير.. فبعد كل جولة قتال، كانت التسريبات العسكرية تتحدث عن “دروس صعبة” و“خصم مدرب"، معلقون عسكريون كـألون بن دافيد وعاموس هرئيل تحدثوا عن “مقاتلين يملكون شجاعة انتحارية وانضباطًا مذهلًا".

ولأول مرة، اعترفت تقارير استخبارية بأن حماس “تخوض حروبًا محسوبة وتعرف كيف توظّف الإعلام العالمي والرأي العام!

بهذا المعنى، تجاوزت صورة حماس في الإعلام الإسرائيلي مستوى "الخطر الإرهابي"، لتصبح كيانًا سياسيًا وعسكريًا قادرًا على فرض قواعد اشتباك جديدة.

لم يعد الحديث عن القضاء عليها جديًا، بل عن "إدارة الصراع معها"، و"احتوائها" ضمن منظومة ردع متبادل!

رابعًا ـ في العقل الأمني الإسرائيلي

ما يقوله الجنرالات، تلتقطه الصحافة، فحين يعترف قادة الجيش بأن “الردع الإسرائيلي لم يعد مطلقًا”، يسارع الإعلام العبري إلى شرح ما يعنيه ذلك للرأي العام، ولذا تكررت في السنوات الأخيرة تعبيرات مثل: "توازن رعب"، "ردع متبادل"، "معادلة النار بالنار".

لقد بدأت إسرائيل حربًا إعلامية لتشيطن خصمها، فإذا بها تعترف بقدراته، وفي هذا الاعتراف تكمن هزيمة السردية الصهيونية، لأن المقاومة حين تُفرض على العدو احترامها، تكون قد انتصرت في المعركة الأهم: معركة الوعي!
بل إن بعض المعلقين حذّروا من أن أي اجتياح بري لغزة سيعيد إسرائيل "إلى مستنقع لا يمكن الخروج منه"، لأن حماس “"ُقاتل على أرض تعرفها وتملك إرادة حديدية".

هذا الاعتراف الضمني بالقوة الميدانية حوّل صورة الحركة في الإعلام العبري من كابوسٍ إرهابي إلى خصم محترف يُحسب له ألف حساب!

خامسًا ـ حماس كورقة في الصراع السياسي الداخلي

تُستخدم صورة حماس أيضًا في المعركة السياسية الإسرائيلية، فنتنياهو يرفعها فزّاعة في وجه خصومه: “من دوني، ستسقط إسرائيل في أيدي حماس وإيران".

بينما يتهمه خصومه بأنه “يُبقي حماس حيّة” ليُضعف السلطة الفلسطينية ويُبقي الانقسام قائمًا، وهكذا تحوّلت حماس في الإعلام العبري إلى مرآة للسياسة الداخلية أكثر من كونها مجرد عدو خارجي.

سادسًا ـ حماس في الوعي الشعبي الإسرائيلي

مع كل حرب جديدة، تزداد المفارقة الخوف من حماس لا يمنع الإعجاب بانضباطها، ولا يُخفي احترامًا لصلابتها، تظهر في استطلاعات الرأي العبرية نسبة متزايدة تعتقد أن “الحرب على غزة لن تنتهي عسكريًا”، وأن “التفاهم مع حماس أفضل من محاربتها إلى الأبد"هذا التحول، وإن بقي محصورًا في النخبة، يعكس تعبًا نفسيًا جماعيًا داخل المجتمع الإسرائيلي، بدأ يدرك أن “عدوه” ليس كائنًا أسطوريًا، بل حركة تنبت من الأرض ذاتها التي يقصفها.

الخاتمة ـ بين الكراهية والاحترام

في النهاية، لم ينجح الإعلام العبري في حسم صورته عن حماس، لأن حماس نفسها أفلتت من القوالب.. كل حرب تكشف أن “العدو” لم يعد كاريكاتورًا، بل عقلًا يقاتل بعقيدة، ولسانًا يعرف متى يصمت ومتى يتحدث.

لقد بدأت إسرائيل حربًا إعلامية لتشيطن خصمها، فإذا بها تعترف بقدراته، وفي هذا الاعتراف تكمن هزيمة السردية الصهيونية، لأن المقاومة حين تُفرض على العدو احترامها، تكون قد انتصرت في المعركة الأهم: معركة الوعي!
التعليقات (0)