قضايا وآراء

في جاكرتا مع الدكتور البرغوثي: من حرارة التعاطف إلى عمق الوعي

عدنان حميدان
"حشود تهتف باسم غزة، وشوارع تتزين بالشعارات، ووجوه تنبض بالصدق"- جيتي (أرشيفية)
"حشود تهتف باسم غزة، وشوارع تتزين بالشعارات، ووجوه تنبض بالصدق"- جيتي (أرشيفية)
لم تكن جاكرتا بالنسبة لي مجرد مدينة بعيدة تحتضن أعلام فلسطين في شوارعها، بل محطة شخصية ومهنية حملتني إلى قلب التفاعل مع الناس والقيادات هناك. فقد كانت مشاركتي إلى جانب أمين عام المبادرة الوطنية الفلسطينية الدكتور مصطفى البرغوثي في زيارة إندونيسيا ومقابلة عدد من القيادات السياسية فيها، عميقة جدا في الأثر، إذ منحتني فرصة الاقتراب من مشهد حيّ يختلط فيه التعاطف الشعبي مع الحاجة الماسة إلى الوعي السياسي.

إندونيسيا: ثقل يتجاوز الرمزية

حين تستقبل إندونيسيا، أكبر دولة إسلامية وعضو فاعل في مجموعة العشرين، وفدا فلسطينيا، وفي نفس الوقت خارج الإطار الرسمي للسلطة، فالمسألة ليست بروتوكولا عابرا. إندونيسيا قوة ديموغرافية واقتصادية وجيوسياسية قادرة على التأثير في موازين القوى، وإذا انتقل تضامنها من الرمزية إلى الفعل (المقاطعة، تعطيل محاولات التطبيع، الدفع نحو عقوبات)، فإن أثره سيصل إلى ما يتجاوز حدود آسيا.

إندونيسيا قوة ديموغرافية واقتصادية وجيوسياسية قادرة على التأثير في موازين القوى، وإذا انتقل تضامنها من الرمزية إلى الفعل (المقاطعة، تعطيل محاولات التطبيع، الدفع نحو عقوبات)، فإن أثره سيصل إلى ما يتجاوز حدود آسيا

خطاب واضح بلا مواربة

في لقاءاته مع المسؤولين، حرص الدكتور البرغوثي على صراحة لا تعرف التجميل: غزة تواجه ثلاث جرائم كبرى: إبادة جماعية، وتطهير عرقي، وعقاب جماعي. هذا الوضوح نزع الغلاف "الإنساني" الفضفاض الذي يحاول الغرب حصر القضية فيه، وأعادها إلى إطارها الأصيل: معركة تحرر وطني ضد احتلال استعماري.

كنت قريبا من هذه اللقاءات، وشاهدت كيف لامست هذه اللغة الصريحة وجدان الحاضرين، فدفعتهم إلى التفكير بخطوات ملموسة بدل الاكتفاء ببيانات تعاطف.

من العاطفة إلى الفعل

المشهد الشعبي كان عاطفيا بامتياز: حشود تهتف باسم غزة، وشوارع تتزين بالشعارات، ووجوه تنبض بالصدق. لكن التجربة الفلسطينية تذكّرنا بأن العاطفة وحدها غير كافية، ما لم تتحول إلى فعل سياسي. ولهذا جاءت رسائل الوفد الفلسطيني في أربع خطوات واضحة:

1- رفض مشاريع التهجير مهما اكتست بغطاء "إنساني".

2- مقاومة الضغوط الأمريكية والإسرائيلية لدفع جاكرتا نحو التطبيع.

3- تفعيل المقاطعة وفرض العقوبات.

4- دعم صمود الفلسطينيين عبر مشاريع عملية داخل الأرض المحتلة.

تحذير من اختراقات خفية

وفي سياق النقاشات، كان لا بد من الإشارة إلى خطر آخر لا يقل خطورة عن التطبيع المعلن: محاولات بعض الدول المجاورة لإعادة تصدير البضائع الإسرائيلية، خاصة في مجالات التقنية والأمن السيبراني. هذا القطاع تحديدا يمثل منفذا حساسا للتجسس واختراق المجتمعات، ومن ثم فإن الحذر من هذا المسار واجب على الدول الإسلامية، حتى لا تتحول شعارات الدعم إلى غطاء لتسويق منتجات الاحتلال بأسماء أخرى.

مقارنة تكشف التناقض
فلسطين لا تحتاج إلى قلوب جديدة، فهي تسكن القلوب أصلا؛ ما تحتاجه هو وعي يقي هذا الحب من الاستغلال، ويحوله إلى خطوات عملية تحاصر الاحتلال وتمنع تمدده

وهنا تبرز المفارقة: ففي الوقت الذي تنفتح فيه عواصم آسيوية مثل جاكرتا وماليزيا أمام الرواية الفلسطينية، تشهد بعض العواصم العربية انزلاقا نحو التطبيع أو فتورا سياسيا. هذا التناقض يوضح أن الرهان الحقيقي لم يعد على الجغرافيا، بل على وعي الشعوب وقدرة النخب على تحويله إلى ضغط سياسي.

المخاطر الكامنة

التجربة الإندونيسية تُظهر أيضا أن التعاطف الشعبي قد يُختطف بسهولة عبر مبادرات ظاهرها إنساني وباطنها تهجير، أو عبر شعارات "التعايش" التي تُستغل لتمرير التطبيع. هنا تتضح أهمية البوصلة الفكرية والسياسية التي يحملها الوفد الفلسطيني، ليس فقط لتحريك المشاعر، بل لحمايتها من الانحراف.

الدرس المستخلص

خرجتُ من جاكرتا بقناعة واضحة: فلسطين لا تحتاج إلى قلوب جديدة، فهي تسكن القلوب أصلا؛ ما تحتاجه هو وعي يقي هذا الحب من الاستغلال، ويحوله إلى خطوات عملية تحاصر الاحتلال وتمنع تمدده.

إن تحويل التعاطف إلى قوة سياسية يتطلب:

• مقاطعة اقتصادية وثقافية حقيقية.

• ضغطا رسميا لفرض العقوبات.

• دعما تنمويا يعزز بقاء الفلسطينيين على أرضهم.

• تحالفات دولية تعيد القضية إلى موقعها كأكبر معركة تحرر في عصرنا.

جاكرتا أثبتت أن فلسطين ما زالت قادرة على إشعال الضمائر، لكن مسؤوليتنا كفلسطينيين هي أن نضمن ألا يبقى هذا الصوت حبيس العاطفة، بل أن يتحوّل إلى استراتيجية مقاومة عالمية. فالتعاطف وحده، إن لم يُحصَّن بالوعي، قد يصبح جسرا يخترقه الاحتلال بدل أن يكون جدارا يردعه.
التعليقات (0)

خبر عاجل