تنطلق سفن غربية لكسر
الحصار المضروب على
غزة، يتقدم هذه السفن على متنها رموز مهمة من العالم الغربي، من فنانين، وسياسيين،
وناشطين مدنيين، ورؤساء بلديات كبرى في أوروبا، كلهم خرجوا لهدف واحد: كسر الحصار
على غزة، وإنهاء هذه المعاناة التي لامست قلب كل مخلص للقيم والمبادئ الإنسانية،
مشهد يمثل قمة التحدي في فعل سلمي مدني ضد أضخم آلة حرب عسكرية يشهدها القرن
العشرين والحادي والعشرين، في ظل دعم أمريكي غير مسبوق، وغير منته، هذه السفن التي
تمخر عباب البحر، لتكسر كل حاجز وضع أمام أهل غزة، لينهي حياتهم في صمت مطبق من العالم،
جعل الناس تتساءل: لماذا حضر الغرب، وغاب العرب عن مثل هذا المشهد؟!
الإجابة المنصفة تشير لأصل الداء، وهو:
الاستبداد، وغياب المؤسسات المجتمعية والمدنية القوية، والاستبداد هنا لا يقف
الكلام عنده على بلادنا، بلاد العرب، بل وبلاد الغرب، فلولا دعم الغرب للأنظمة
التي تحولت لشرطي الأمريكان والصهاينة في المنطقة، ما كان له أن يعيش، ولا أن يطول
أمده، فلو ترك هذا الاستبداد والشعوب العربية، لقامت وانتفضت عليه، وهو ما جرب في
أكثر من حراك، شهده العالم كله، في ربيع عربي عظيم، سرعان ما عملت هذه القوى
لإنهائه، وإعادة الكابوس العربي لسابق عهده، وبشكل أبشع.
يحاول البعض منا في بلادنا، أن يهون من الصعاب التي تواجه الغربيين في مواقفهم السياسية والإنسانية، وهو أمر لا يصح، فإن هؤلاء القوم لديهم الاستعداد الكامل لدفع الضريبة، وهو ما رأينا في جامعات أمريكية هددت طلبة بالعقوبة إزاء مواقفهم في التضامن مع غزة، ولم يزد ذلك الطلبة إلا ثبات ورسوخا على مواقفهم، ورأيناه في شباب عرب في شركات أمريكية كبرى.
لقد كان من أهم الأسباب لبروز هذه الحشود في
السفن الغربية، أن لدى هذه البلدان مؤسسات تستطيع أن تحاكم السلطة التي تمنعها من
القيام بواجبها نحو أهل غزة، وهو ما دفع بتسعة وزراء في هولندا للاستقالة، احتجاجا
على موقف السلطة من الكيان، وهو ما دفع وزراء آخرين في دول أخرى لاتخاذ مواقف،
ودفع برؤساء دول لاتخاذ مواقف داعمة لغزة، فالاستبداد يجد راحته والأجواء المهيئة
لبقائه، في ظل غياب المؤسسات القوية المحاسبة له، وفي ظل غياب ناخب يقظ يحاسبه
أولا بأول، ويهدد بأول صندوق انتخابات لإزاحته، وعقابه عقابا سياسيا ينهي مسيرته واستبداده،
وهو ما يغيب عن بلداننا، ولننظر إلى بلادنا متى كانت فيها آخر انتخابات ديمقراطية،
أو نسبة من الشفافية السياسية، سنعرف أين نحن من هذه القوى المجتمعية؟!
الأمر الآخر المهم، هو مساحة العمل التي
قامت به القوى المجتمعية في بلدانها، من غرس القيم والمبادئ التي تعزز من قيمة
الإنسان، وحقه في الحياة، وحماية هذه المؤسسات لكل من يدعو لهذه القيم، فلا يمكن
أن يعاقب فنان لموقف سياسي، فنرى ممثلة حاصلة على الأوسكار في سفن فك حصار غزة،
وهو ما يعزز فرصها الفنية، ولا يقف حجر عثرة أمام عطائها الفني، فهي في موقفها
تعبر عن إيمانها بفنها، وبدور هذا الفن في المجتمع المحلي والدولي.
بينما الحال مختلف تماما في بلداننا، فقد تم
مصادرة الحرية السياسية، وكذلك الفنية، فالمجال الفني مصادر سواء في مصر أو بلدان
العرب، ولو قارنا حال هذه الفنانة الأوروبية، بحال ممثل مصري هو محمد سلام، كيف
يتم معاقبته لأنه رفض المشاركة في مهرجان الرياض، وقد كانت الحرب على غزة في
بدايتها، ولم تصل لهذا الحال المرعب من العدوان والإبادة.
حراك الغربيين في سفن كسر الحصار، هو إقامة حجة على كل متخاذل، سواء التابعين للأنظمة، من أبواق إعلامية، ومنظرين سياسيين جهلة، وبغض النظر عن الأثر المتوقع، والنتيجة المرجوة، فيكفيهم شرف المحاولة المتكرر، والمدعوم بإصرار الوصول لإسماع الجميع، رسالة فك الحصار عن أهل غزة، وإنقاذ هذا المجتمع المظلوم من الموت بالتجويع
والحال لم يتغير، فبينما نرى فنانين غربيين
يتوشحون بالحزن الشديد على أهل غزة، نرى مهرجانات العرب تنطلق، ومطربي وفناني
العرب في كبرى العواصم العربية يقيمون الحفلات، وتتحرك النقابة المعنية، لصعود
واحدة من الجمهور، فتثور لأنها صعدت على المسرح تقبله، وذلك من باب ذر الرماد في
العين، وكأن الفضيلة ستقف عند هذا المشهد، وليس عند إقامة حفلات، وعلى بعد كيلو
مترات تجري أكبر مذبحة إنسانية في تاريخ البشرية، على مرأة ومسمع ومباركة من
العالم الغربي، وجل العالم العربي.
الفارق بيننا وبينهم، أن القوى المجتمعية،
قدمت الاهتمام بالإنسان، بغض النظر عن ديانته، وعن جنسه، ولونه، وعرقه، وحولوا ذلك
لثقافة، ثقافة نصرة المظلوم، دون النظر لديانته، ولذا رأينا هذا التعدد في
الشخصيات وتوجهاتهم، وهو ما يحاربه بكل ما يملك النظام المستبد في بلادنا، ويحرص
على نجاجه في ذلك المستبد الأكبر، الاستعمار العسكري السابق، والذي تحول لاستعمار
بدون دبابات وجنود، فحول جل حكام بلادنا إلى مستعمرين أكثر شراسة منه، يؤدون
وظيفته، ويسعون لهدفه.
يحاول البعض منا في بلادنا، أن يهون من
الصعاب التي تواجه الغربيين في مواقفهم السياسية والإنسانية، وهو أمر لا يصح، فإن
هؤلاء القوم لديهم الاستعداد الكامل لدفع الضريبة، وهو ما رأينا في جامعات أمريكية
هددت طلبة بالعقوبة إزاء مواقفهم في التضامن مع غزة، ولم يزد ذلك الطلبة إلا ثبات
ورسوخا على مواقفهم، ورأيناه في شباب عرب في شركات أمريكية كبرى.
والأمر ليس بمستغرب، فبعد ما رأيناه من
الضريبة الغالية والمرتفعة التي يدفعها أهل غزة، لا يستغرب الإنسان ما يضحي به
أوروبيون، وعرب يقيمون في أوروبا وأمريكا، بينما هناك بعض العرب حين تحدثه عن
مقاطعة بضائع وشركات تدعم الكيان، يتحجج بلقمة العيش، وكأن لن ينعم بالرخاء في
حياته إلا على حساب حياة الآخرين من إخوانه المظلومين.
حراك الغربيين في سفن كسر الحصار، هو إقامة
حجة على كل متخاذل، سواء التابعين للأنظمة، من أبواق إعلامية، ومنظرين سياسيين
جهلة، وبغض النظر عن الأثر المتوقع، والنتيجة المرجوة، فيكفيهم شرف المحاولة
المتكرر، والمدعوم بإصرار الوصول لإسماع الجميع، رسالة فك الحصار عن أهل غزة،
وإنقاذ هذا المجتمع المظلوم من الموت بالتجويع، بعد أن تم إبادته بكل أسلحة ممكنة،
وهو ما يجعلنا نستبشر بهذا الحراك، الذي لا يحمل بشرا على متن سفنه، بل يحمل قلوبا
تنبض بالحياة الحرة، تسعى لتمنح ما بقي من أهل غزة، ببعض ما يملك من أسباب الحياة.
[email protected]