تميزت دولة
الاحتلال وتفوقت بقدرتها الاستخباراتية في انتهاز الفرص للنيل
من أعدائها، وعُرفت منذ نشأتها بحِيَلها التكنولوجية وبراعتها في التفجير والتدمير،
وحادث تفجير البيجر في لبنان يوم 17 أيلول/
سبتمبر 2024 والذي سقط فيه 32 شهيدا
فضلا عن آلاف الجرحى والمصابين؛ شاهد على ذلك.
كما عُرفت أيضا بقدرتها في إثارة القلاقل والنزاعات وتدبير الانقلابات، وقد
تباهى وتفاخر قادتها بالذراع الطويلة التي تستطيع النيل من كل من يعاديها أو يقف
في طريقها في كل مكان، حتى ولو كان بالأمس مؤيدا وحليفا لكنه غيّر رأيه وغير موقفه
بجانب الحق ولو على سبيل الاحتمال.
ومن خلال حروبها الخاطفة على أرض الأغيار، ونجاحها في اصطياد الرموز
المستهدفة، نجحت إسرائيل في ترسيخ وتثبيت فكرة الردع ضد خصومها. كما أشاعت إسرائيل
ونشرت وأذاعت عن طريق وسائلها في الدعاية والإعلام أن جيشها لا يقهر، وأنه جيش
أخلاقي، لأنه عندما يريد تفجير مجمع سكني بكامله أو عمارة منه يمنح السكان ما بين
عشر دقائق أو عشرين دقيقة للخروج من المبنى، ومن ثم فهو جيش أخلاقي يحرص على حياة
السكان وفق الدعاية الإسرائيلية!
في حربها الأخيرة على
غزة وإيران لم تكن إسرائيل وحدها، وإنما دخلت ومعها
أمريكا بكامل قوتها بالإضافة إلى قدرات الدول الكبرى (بريطانيا وفرنسا وألمانيا..)، بمعنى أن حلف الناتو وأوروبا سانداها وساعداها واشتركا معها في
المعارك العسكرية بشكل مباشر وبالدعم السياسي في تلك الحرب.
الطرف الآخر في غزة لم يكن جيشا نظاميا لدولة، إنه
فقط مجرد فئة من أحفاد أجيال عانت من الاحتلال والقهر واغتصاب الأرض وتدنيس
المقدسات ومحاولات التهجير القسري والاستيلاء على مزارع الزيتون والبيارات، فضلا
عن اقتحام البيوت وهدمها، واعتقال الناس وإذلالهم أمام الحواجز وعلى مدار ما يزيد
عن 76 سنة. ووفق
القوانين والأعراف الدولية في تعريف وتوصيف أفراد مؤمنين بقضيتهم ويدافعون عن
أرضهم وبلادهم ضد الاحتلال؛ تصبح تلك الفئة حركة
مقاومة وطنية.
التطور التاريخي لهذه الحركة في فلسطين بدأ بمنظمة فتح بقيادة ياسر عرفات،
ثم تطور ونتجت منه تنظيمات أخرى ربما تشترك كلها في مقاومة الاحتلال لكنها تختلف
في الأساليب، وطبيعي أن حركات المقاومة لم تتوقف أبدا عن النضال طالما هناك
احتلال. وقد عاشت تلك الفئة من أحفاد المظلومين بين الكفاح وحلم النصر والتحرير.
ومن ثم كانت قصة الأمس التي حدثت منذ عامين بداية لتاريخ جديد وتغيير جديد.
فقصة الأمس لامست في نفوس الأحرار أملا نديا، فما غابت شمسها بعد، وما استطاعت
نيران الحرب التي دمرت الحجر والشجر أن تخفي في ضحاها أو حتى ليلها عدد ضحاياها
الأبرياء. فدماؤهم الطاهرة تحولت نورا وزادا للحرية والعزة وكرامة الإنسان، يقاوم
به الشرفاء حرب التجويع والعطش.
أما نفوسهم الزكية التي ذهبت فداء وتضحية فقد كانت
زيتا يضيء، يطهر القلوب ويهديها قصد السبيل، ويحرر العقول من أسر الخوف، ويرفع الهمة
فوق عتمة السياسة وبازار المبادئ وبورصة أسهم المصالح والخيانات. لكن البيئة
المحيطة لم تكن نظيفة ولا خالية من الخذلان والخيانة.
ووسط الجو الملوث بالخيانة والخذلان وفقدان النصير،
كانت أرض العزة تنتظر كعذراء تحافظ على شرفها وتخاف عليه من التلوث، فتلملم في كل
ليلة حبات عقدها بغضب مكتوم، يرفض العجز ويأبى المذلة، ويطوي ليله يتجرع مرارة
الانتظار ويتطلع بلهفة نحو الأفق البعيد، عله يبصر قدوم الذي يحمي أهله وديارهم،
ويصنع من الضعف قوة، ومن الخوف جسارة واقتدارا، فيحقق لهم سلام الشرفاء حين يسمو
فوق الآلام والجراح، فيمد يمينه لينتزع بها من عمق الدجي صباحا يحتضن الدنيا
ويملؤها نارا ونورا؛ نارا للعدو للمعتدي المغتصب وتكف أذاه، وتنزع عنهم ثوب
الوهم المريح بأن جيشه "لا يهزم ولا يقهر أبدا"، نورا يكشف أساليب
المخادع ويبطل خطط الشر لديه، ويفضح شراكة مراكز القرار في المؤامرة، ويكشف الوجه
القبيح لأغلب قادة عواصم التنوير ورغبتهم في العودة إلى سرقة واغتصاب الشعوب
واستعمارها من جديد.
هدمت غزة أساطير الباطل وفتحت من جديد أبواب تاريخ الأمجاد، كما كشفت غزة
بثبات أهلها وصبر نسائها الحرائر نوعين من البشر؛ سادة وعبيدا.
أما السادة فهم قوى
وطنية حرة اندفعت من عمق الغرب ذاته وخرجت في عواصمه ومدنه وملأت شوارعه تهتف
بالحرية لفلسطين، بإصرار فريد يتناقض مع الهدف العبري والأطماع العبرية ولأول مرة
في التاريخ الحديث.
أما العبيد فهم وكلاء العهر
السياسي وبهم تخترق الشعوب وتحترق الأوطان. ويمكن تقسيمهم إلى نوعين: نفوس خبيثة،
وأخرى خسيسة. والنوعان يتفقان في الهدف: فهما يكرهن الشعوب ولديهما ارتكاريا
سياسية من كل ما يمت للحرية بصلة، بينما يتعشقون المذلة، ويشعرون بشهوة منقطعة
النظير تجاه خدمة سادتهم، ولو كلفهم ذلك كل ما في خزائنهم من مال مسروق من كد
الغلابة في البلاد التي تعذب بوجودهم وفسادهم فيها.
ويختلفون في
الأدوار، فالنفوس الخبيثة تكره حرية الشعوب وتسعى لتمزيقها وتقسيمها وتعبيدها، فتشتري
الذمم والضمائر وتكون مليشيات ثقافية وإعلامية للتدليس والتشويه، بينما النفوس
الخسيسة تبيع وطنها وشرفها، وتتحول إلى أدوات تباع وتشترى، بل وتؤجر كمليشيات
مرتزقة للأذى وإسقاط الأحرار، وهكذا يسقط ما في الوطن من بقايا ديمقراطية بدأت بصندوق
الأصوات الحرة، ثم سقطت بفتح خزائن الخبثاء ليقضوا على كل أثر للثورة، أو ما تبقى
للشعوب من كرامة.
وهؤلاء وأولئك بمواقفهم وألسنتهم قد كشفوا أنفسهم
بأنفسهم، وفضحوا في وضوح لا يقبل الشك غباءهم وعمالتهم وخيانة أمتهم، حيث انحازوا
في تبجح وصغار إلى الباطل. وأصبحوا غير قادرين على قبول فكرة نجاح المقاومة في
النيل من العدو، وغير قادرين على فهم أن المقاومة هي السبب الأول في التفاوض، وإلا
لماذا يجلس الطرف الآخر ويتفاوض؟
هم يظنون أن المقاومة يمكن أن تشكل تهديدا لهم، فهم
يحسبون كل صيحة عليهم. وهم غير قادرين على استيعاب أن الفعل المقاوم هو الذي استدعي القضية
الفلسطينية إلى الحياة بعد أن كادت تموت وتنسى، فأعاد الفعل المقاوم الاهتمام بها
من جديد، وكانوا يحسبونها ماتت.
وانزلقت الدول الوظيفية في المحيط الإقليمي إلى مسارين: أحدهما إعلامي مكشوف
تناغم دوره مع الحلم العبري وطالب بضرورة استئصال هذا الصداع المسمى بـ"المقاومة"
ودفن فكرته في فلسطين، وفي كل العالم العربي. وبمشاركة ومباركة ودعم قوى دولية؛ دفع
العدو المحتل تحقيق هذا الهدف بإمكانياته العسكرية وتمويل مالي ودعم إعلامي
ولوجستي من الجيران والحلفاء الجدد ولم ينجح.
أما المسار الثاني ففي الغرف والجلسات المغلقة، حيث كشف الإعلام العبري
ذاته هؤلاء المهووسين بهذا الهدف، وإصراهم على ضرورة نزع سلاح المقاومة واستبعادها
من أي تدابير لقيادة غزة في اليوم التالي للحرب، وقد ربطوا مساهماتهم في إعادة
الإعمار بتنفيذ تلك المطالب، إذ كيف يمولون العدو بدفع تكاليف حملة الإبادة
والتدمير العسكري مرتين: مرة للحرب والقضاء على المقاومة، والأخرى لإعادة الإعمار بوجود
المقاومة؟
وقف النار هش، وأوهى من خيوط العنكبوت، ويمكن للعدو أن يستأنف القتل
والتدمير في أي وقت؛ ترى: من سينجح: تيار السادة الهادر؟.. أم مؤامرات العبيد؟