ما أن توقف إطلاق النار في
غزة، حتى استأنفت بعض المنابر
الإعلامية العربية المضي على سكة الردح الإعلامي الذي امتهنته طيلة عامي الإبادة
الجماعية على غزة، لم تترك هذه المنابر مناسبة يومية وعلى مدار الوقت مهمتها للنيل
من الفلسطينيين وقضيتهم. السمة الرئيسة لهذه الجهود الإعلامية، تعظيم شأن
الاحتلال
وتسخيف مقاومته، لا بل الإعجاب بفاشيته ووحشيته التي بإمكانها أن تأخذ "حق"
هؤلاء الذين أحسّوا بعار ما يجري، خصوصا على الجانب الإعلامي، وفي شوارع غير عربية؛
ملايين البشر منددين بوحشية وفاشية الاحتلال ومطالبين بمقاطعته ومعاقبته، وبالقدرة
الرهيبة لصمود الشعب الفلسطيني في مواجهته لأعتى فاشية في العصر الحديث.
الشعور بالصدمة والاكتئاب الذي عبّر عنه إعلاميو قنوات
عربية، من قدرة الفلسطيني على
مقاومة عدوه بأدواته البسيطة، وتسلحه بإرادة وأمل لدحر
الاحتلال، هو شعور مشترك تقاسمه بعض الإعلام العربي مع دوائر ومنابر صهيونية، بتسخيف
هذه الإرادة والتقليل من شأنها، ولم يكن وليد الصدفة لا قبل العدوان وأثناءه، ولا
بعد وقف جرائم الإبادة، إنما هو خطوة تحمل في ثناياها مقومات نقلة نوعية في
الانحدار الإعلامي العربي بعد جرائم الإبادة في غزة، والتي كان أحد أهدافها إنزال
هزيمة ساحقة بوعي الفلسطينيين، وكي وعيهم ضرورة وواجب كما يقول بعض شراذم الإعلام
العربي المتفقين تماما مع سياسات صهيونية تاريخية، عبّر عنها نتنياهو وإيتمار بن
غفير وبتسلئيل سموتريتش، والتي وضعها آباء الصهيونية من قبل كنهج وسياسة، لتوطين إسرائيل
في العقل العربي، كقوة مهيمنة وظاهرة طبيعية بمقدورها بسط سيطرتها على شرق أوسط
مهزوم ومقهور.
المهمة الصهيونية في سحق
وعي الفلسطينيين وكسر إرادتهم لا تكتمل إلا مع قبول عربي
بها، أو فرضها بقوة العدوان والسيطرة والتوسع، كما يحدث على الأرض في فلسطين وفي أماكن
عربية أخرى، ووظيفة نخب الإعلام العربي أن تشكل نواة هذه المهمة الفاشلة بطبيعة
الحال، والتي تسببت باكتئاب لأصحابها بتعبيرهم، ومن قبل لآبائها الصهيونيين، لكنها
لم تتوقف عند حدود إلحاق الهزيمة بمقاومة الشعب الفلسطيني، وبارتكاب جرائم الحرب
والتطهير العرقي، فجعل إسرائيل وجرائمها واحتلالها إقرارا وطوعا ورضا بهيمنتها تحت
مسمى "السلام" بعد كي وعي الفلسطينيين والعرب؛ يشكل لب المشروع
الاستعماري الصهيوني في المنطقة العربية، وبدعم أمريكي وغربي؛ بات جزء منه مشروعا
عربي للأسف.
طيلة العقود الطويلة من تجربة الشعب الفلسطيني في مقاومة
هذا المشروع، وتعرضه لشتى الجرائم والمؤامرات المختلفة، منذ النكبة عام 1948، ثم
هزيمة جيوش النظام العربي عام 1967، إلى كل جولات الصراع، كان يجري التركيز على
نقطة مهمة لعزل قضية فلسطين عن عمقها العربي، وجعلها قضية نزاع فلسطيني إسرائيلي
بحت. نقاط كثيرة سجلتها إسرائيل على جبهة النظام العربي، وفي إحداث شرخ كبير بين
الأنظمة وقضيتها المركزية، خصوصا في مرحلة ما بعد مؤتمر مدريد (1991) وأوسلو (1993)،
وسبقهما اتفاق كامب ديفيد بين إسرائيل ومصر (1979)، وتعاد الكرّة اليوم بعد جرائم
الحرب والإبادة في غزة. فمنذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، تحاول إسرائيل تسويق
سرديتها بالخلاص من مقاومة الفلسطينيين التي تضمن سلاما يقوم على الإخضاع والهيمنة
والقوة مع النظام العربي.
في الآلة الإعلامية الفظيعة لبعض النظام العربي، التي
تخضع لما عجزت عنه قوة جرائم الإبادة والسردية الصهيونية، بجعل الفلسطيني والعقل
العربي قابلين للتعايش مع جلاده خاضعا بالسحق وبالقوة الغاشمة، دلالات تنتج
عدوانية تلقائية ضد "المقاومة"؛ كون الأخيرة هي مركز كل "كوارث"
إسرائيل والنظام العربي التواقين للسلام والرخاء والتعايش كما صورتها السردية
الصهيونية، وكأنه ليست الكارثة والمسؤولية وجود الاحتلال وممارساته الفاشية
العنصرية، والقائمة على فكرة التطهير العرقي لسكان الأرض الأصليين وزرعها
بالمستعمرات التي تتزوج فيها العبقرية الصهيونية بالموارد العربية كما تريدها إسرائيل
والولايات المتحدة.
إذا، الامتعاض العربي والبعض الفلسطيني الرسمي هو من
مقاومة هذا المستعمر، والمعبَر عنه من حناجر أبواق عربية، بالانحياز الكامل لأفكار
اليمين الصهيوني، بنهاية القضية الفلسطينية وحقوق شعبها باعتبارها قضية تحرر وطني،
واستبدالها بمشاريع تطبيع سياسي واقتصادي وأمني مع إسرائيل، هو امتعاض من عقلية شعب
لم ولن تتأقلم وتخضع لمحتلها رغم كل ما أصابها. وإصابة بعض النخب والأبواق العربية
المتصهينة بحالة الاكتئاب سبقها انهيار وانحلال عظيم لمنابر ونخب ثقافية وإعلامية عربية
أثناء جرائم الإبادة، وأثناء صمود المقاومة ومواجهتها لآلة الدمار الصهيوني
الهائلة، ما جعل هؤلاء في وضع مربك سمته الأساسية الحيرة وعدم الاطمئنان حتى من
الاتفاق الأخير لوقف العدوان بدون حسم هزيمة المقاومة ورفعها الأعلام البيضاء.
الخاتمة الوحشية لجرائم الإبادة الصهيونية في غزة
يعتبرها بعض نخب إعلام العار العربي، هزيمة مطلقة لفكرة "المقاومة" ومرادفا
حرفيا لمعنى الانتصار الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، واعترافا بأفضلية الأسلوب
الصهيوني الذي هتفت وروجت له أثناء الإبادة الجماعية بمسؤولية الضحايا عما حل بهم،
وهي سردية تكررت وستتكرر في قادم الأيام عن جدوى مقاومة الفلسطينيين والتمسك
بقضيتهم وحقوقهم، التي أصبحت في وسائل إعلام غربية وعند قطاع واسع من الرأي العام
الدولي مرادفا قويا للكرامة الإنسانية ولعدالة القضية الفلسطينية وحق شعبها
بالحرية، في الوقت الذي تتلاصق في ذهن إعلام عربي رسمي طقوس معزوفة صهيونية عن
الشعب الفلسطيني ومقاومته، مع لغة تتناوب على اجترار مفردات فيهما من الأسرلة
والعبرنة الركيكة ما يوحي بنبرة انتصارها على الضحايا.
كلمة أخيرة، مع خسارة إسرائيل الاستراتيجية في الغرب في
ميدان سرديتها، "محاربة الإرهاب"، وارتكابها جرائم الحرب والإبادة في غزة،
وانفلاتها المستعر على كل الوجود الفلسطيني، هناك من يحاول تعويض خسارتها عربيا
بوابل من التزوير الصهيوني، وفرض ما أرادت إسرائيل وأُرغمت أنظمة عربية على قبوله
في مهازل مؤتمرات "السلام" التي لن تكون نهاية المطاف بالنسبة للمخطط
التوسعي الصهيوني، بل محطة على طريق التحقيق المطلق للصهيونية، كما يراه نتنياهو وبن
غفير وسموتريتش ونتنياهو، ومن ينطق باسمهم من ندمائهم العرب ومن يحاول أن يكون
عماد روايتهم، وبغير إدراك أن للشعب الفلسطيني ولشعوب عربية كلمة عن حقها وبوصلتها.
x.com/nizar_sahli