قضايا وآراء

خطة ترامب: مكافأة واشنطن للاحتلال على ارتكاب جرائم الإبادة

ظاهر صالح
"التعديل الأكثر تدميرا هو الإصرار على بقاء قوات الاحتلال في "طوق أمني" داخل قطاع غزة"- جيتي
"التعديل الأكثر تدميرا هو الإصرار على بقاء قوات الاحتلال في "طوق أمني" داخل قطاع غزة"- جيتي
كان إعلان دونالد ترامب عن خطة سلام شاملة لإنهاء حرب غزة مجرد ستار دخان لإخفاء تعديل جوهري قاده نتنياهو على طاولة المفاوضات. في اللحظة الأخيرة، لم يكتفِ نتنياهو بإجراء "تعديلات تكتيكية"، بل أعاد صياغة جوهر الصفقة بالكامل، هذا التحول الجذري حوَّل الوثيقة من مجرد بصيص أمل ضئيل لانسحاب تدريجي؛ إلى وثيقة تضفي الشرعية على احتلال عسكري دائم ومُموّه تحت غطاء دولي.

تشير التسريبات الصحفية الموثوقة، وخصوصا ما كشفه موقع "أكسيوس"، إلى أن الصفقة لم تكن يوما خطة سلام متوازنة، بل كانت منذ البداية مخططا أمريكيا- إسرائيليا يهدف بالدرجة الأولى إلى نزع سلاح المقاومة الفلسطينية مقابل وعود فضفاضة ومبهمة، ولكن حتى هذا لم يكن كافيا لنتنياهو الذي استغل ضعف الموقف الأمريكي لانتزاع ما يمكن تسميته "امتيازات احتلال" صريحة، الأمر الذي أشعل غضبا مكتوما في العواصم العربية التي شعرت بالخداع.

لقد وافقت هذه الدول على مسودة، ليتم تقديمها علنا في النهاية بنسخة مختلفة كليا عن كل التفاهمات الأولية.

الصفقة لم تكن يوما خطة سلام متوازنة، بل كانت منذ البداية مخططا أمريكيا- إسرائيليا يهدف بالدرجة الأولى إلى نزع سلاح المقاومة الفلسطينية مقابل وعود فضفاضة ومبهمة

قلب الطاولة إعدام "الانسحاب التدريجي" وولادة "الاحتلال المُموَّه"

تكشف تفاصيل اللقاء الماراثوني الذي دام ست ساعات بين نتنياهو ومبعوثي ترامب (جاريد كوشنر ورون ديرمر) كيف تحولت الخطة إلى منح الاحتلال "الملكية المطلقة" لنتائج الحرب:

1. إلغاء المهل الزمنية القابلة للتطبيق

تم تجميد وإلغاء البند الأصلي الذي نصّ على "انسحاب تدريجي ومُحدد المدة في غضون أشهر قليلة، وبدلا من ذلك، أصبح الانسحاب غامضا، ومربوطا بشكل غير قابل للتنفيذ بـ"التقدم في نزع سلاح حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، هذا التحول يقضي فعليا على أي أفق زمني لإنهاء الوجود العسكري للاحتلال، ويجعل العملية برمتها مرهونة بـشرط مستحيل التحقق.

2. فرض "حق الفيتو" العسكري للاحتلال

لم يكتفِ نتنياهو بالغموض، بل ضمن أن يُمنح الاحتلال "حق الفيتو" على تقييم مدى التزام حركة "حماس" بتسليم السلاح. هذا يعني عمليا أن الاحتلال هو الطرف الوحيد الذي يُقرر بدء أو إيقاف أي مرحلة انسحاب، جاعلا التنفيذ رهنا لإرادتها المنفردة وتفسيرها الخاص لـ"الخطر".

3. تثبيت الوجود الدائم تحت ذريعة الأمن

التعديل الأكثر تدميرا هو الإصرار على بقاء قوات الاحتلال في "طوق أمني" داخل قطاع غزة، "إلى أن يتم ضمان خلو غزة من أي تهديد". هذه العبارة المطاطة هي تجريد للغة، فهي تُشرّع احتلالا عسكريا غير محدد المدة لأجزاء واسعة من غزة تحت ذريعة الأمن، وتحوّل صفقة السلام إلى وثيقة لتكريس السيطرة العسكرية للاحتلال الدائمة على الأرض، والبحر، والجو.

الغضب العربي المُفضوح: التواطؤ غير المقصود والانسياق الدبلوماسي

تلقّت العواصم العربية المشاركة في المفاوضات، من الرياض والقاهرة وعمّان، صدمة مُضاعفة، لم تغضب من محتوى الصفقة بقدر غضبها من طريقة الخداع، إذ شعرت أن إدارة ترامب قد استخدمتها كغطاء شرعي لتقديم خطة عسكرية للاحتلال خالصة، لقد وافقت على مسودة كانت تبدو "قابلة للحياة"، لتجد نفسها أمام إعلان ترامب لنسخة "مُصممة بالكامل" لإرضاء نتنياهو وجناحه اليميني.

هذا المأزق الدبلوماسي انعكس في رد الفعل العربي الباهت والمُتردد:

• الترحيب البارد: الترحيب "المبدئي والحذر" الذي صدر عن ثماني دول عربية وإسلامية كان محاولة لإنقاذ ماء الوجه وتجنب الصدام المباشر مع واشنطن، أكثر منه تأييدا حقيقيا؛ إنه يعني ضمنيا: "نحن نؤيد وقف الحرب، لكننا لا نؤيد محتوى الصفقة".

• المناورة التكتيكية: الوساطة القطرية، الأقرب لحركة "حماس"، سارعت لتصوير الإعلان كـ"خطوة تكتيكية أولى قابلة للتفاوض"، وهو اعتراف غير مباشر بأن واشنطن ونتنياهو حاولا فرض الأمر الواقع قبل أن تتاح للحلفاء مراجعة النسخة النهائية.

ضمِن نتنياهو أن تظل غزة رهينة للقرار العسكري للاحتلال المطلق، وأن تتحول العملية التفاوضية من مسار لإنهاء الاحتلال إلى مسار لإدارة الاحتلال تحت مسميات جديدة

ميزان القوى: لماذا منح ترامب نتنياهو هذه المكافأة؟

لم يكن إصرار نتنياهو على تعديل الصفقة مجرد مناورة تفاوضية، بل كان كشفا لخطة ترامب الحقيقية ومصالحه الخاصة:

• هدف ترامب الاستعجالي: كان هدف ترامب الأساسي هو تحقيق إنجاز سياسي سريع باسم "السلام"، لتعزيز صورته الانتخابية على الساحة الدولية والمحلية. كان مستعدا للتضحية بتفاصيل الخطة لضمان موافقة الاحتلال أولا، على اعتبار أن الضغط اللاحق يمكن أن يوجّه إلى حركة "حماس" والدول العربية.

• حسابات نتنياهو المزدوجة: ضمن نتنياهو تحقيق هدفين استراتيجيين في آن واحد:

- داخليا: تعزيز موقفه كـ"حارس أمن الاحتلال الأوحد"، أمام قاعدته اليمينية وناخبيه، وتجنب اتهامات التنازل التي تلاحقه من اليمين المتشدّد.

- استراتيجيا: استخدام الصفقة الأمريكية كـمظلة دولية وشرعية لتثبيت السيطرة العسكرية على قطاع غزة، وتجريد أي سلطة فلسطينية لاحقة من القوة الفعلية.

بهذا التعديل، ضمِن نتنياهو أن تظل غزة رهينة للقرار العسكري للاحتلال المطلق، وأن تتحول العملية التفاوضية من مسار لإنهاء الاحتلال إلى مسار لإدارة الاحتلال تحت مسميات جديدة.

ختاما، مثّلت "صفقة ترامب المُعدّلة" اختبارا قاسيا لمصداقية الولايات المتحدة وعمق التزامها تجاه حلفائها العرب، وكذلك تجاه ادعاءاتها بتحقيق السلام، لم يعد السؤال يدور حول مستقبل الصفقة، بل حول مصداقية العلاقات الأمريكية-العربية. فهل ستتصدى الدول العربية لهذا الانحراف الصارخ الذي يشرعن جرائم الحرب، أم ستستمر في تقديم الغطاء الدبلوماسي لخطط تُكرّس الاحتلال وتكافئ مرتكبي الإبادة؟
التعليقات (0)

خبر عاجل