صورة الرجل
المسنّ في
غزة، الممدّد على الأرض رافعا الراية البيضاء قبل أن يُقتل برصاصة
الاحتلال، تجسّد الحقيقة الأشد قسوة: لا مجال للعيش مع الاحتلال؛ حتى السلمية لا
تُنجي من القتل.
هذا المشهد لم
يكن استجداء للرحمة، بل شهادة صريحة على استحالة التعايش مع آلة قمع لا تعرف حدودا
في القتل والإرهاب. في عالم تحكمه سلطة الاحتلال الغاشم، لا تكفي راية بيضاء لتكون
حماية، ولا السلمية لتكون خيارا ناجعا، فالاحتلال لا يعترف بالضعف أو التراجع، بل
يُمعن في القتل دون تمييز.
هذه الحقيقة
الأليمة تفرض على
الفلسطينيين خيارا وحيدا: المواجهة، لكنها ليست بالأمر الهيّن،
وليست متاحة للجميع. فالثمن الذي يدفعه من يقررون الوقوف في وجه آلة الاحتلال هو
ثمنٌ باهظ، لا يُمكن الاستهانة به أو التخفيف من كلفته.
الحقيقة الأليمة تفرض على الفلسطينيين خيارا وحيدا: المواجهة، لكنها ليست بالأمر الهيّن، وليست متاحة للجميع. فالثمن الذي يدفعه من يقررون الوقوف في وجه آلة الاحتلال هو ثمنٌ باهظ، لا يُمكن الاستهانة به أو التخفيف من كلفته
إن
المقاومة
الفعلية -في معناها الأصيل- ليست شعارا ولا حماسا ظرفيّا، بل فعل واعٍ محفوف
بالمخاطر، قد يجرّ على المجتمع كله موجات متتالية من القتل والتجويع والدمار. وهذا
الثمن الباهظ لا يُدفع فقط من قبل المقاومين، بل تتحمله الأغلبية الصامتة كذلك،
حتى إنْ لم تُشارك في المواجهة.
وهنا تظهر
المفارقة: فـ"النخبة" التي تختار المواجهة تُلزم الأغلبية -شاءت أم أبت-
بثمن قد لا تكون مستعدة لتحمله، وقد لا ترضى عنه، على الأقل في المدى القريب. وهذا
ما يُنتج سخطا شعبيا مفهوما تجاه تداعيات المعركة، لا تجاه مبدئها بالضرورة.
لكن من السذاجة -بل
من الظلم- أن يُحمّل الفعل المقاوم مسؤولية الدماء التي تسيل، وكأن الاحتلال لم
يكن يقتل ويهدم ويجرف ويجوّع قبل أي مقاومة. من يرى أن المواجهة هي التي "أغرقت
الناس بالدم"، يتجاهل حقيقة دامغة: أن الاحتلال، منذ لحظة ولادته، هو مشروع
قتل وتجويع ونفي واقتلاع، سواء وُجد من يقاومه أم لا.
المذابح ليست
نتيجة مباشرة للمقاومة، بل هي سلوك متأصل في بنية هذا الكيان، وأسلوب ممنهج في
إخضاع الفلسطيني وكسر إرادته. وإن كان هناك من دماء تسيل، فالسؤال لا يجب أن يكون:
"لماذا قاومتم؟"، بل: "لماذا لا تزال آلة القتل تحكم هذا المكان؟".
إن اختزال المشهد
في أنّ الفعل المقاوم هو سبب كل هذه المآسي، هو قراءة معكوسة للتاريخ، تحمّل
الضحية تبعات فعل الجلاد، وتُنكر سجلّا طويلا من الجرائم الموثقة التي ارتُكبت في
فترات لم تكن فيها مقاومة فعلية.
التاريخ يثبت أن الثورات وحركات التحرر لم تبدأ بأغلبيات متحمسة، بل بأقليات مصمّمة. النخبة هنا ليست نخبة طبقية، بل "نخبة الفعل"، التي تُقدّم بصيرتها على مصلحتها، وتتقدم الصفوف رغم الكلفة
ولذلك، فإن
المقاومة الحقيقية، تلك التي تستلزم تضحيات، لا يمكن أن تكون عملا جماعيّا دائما، إنها
فعل نخبة صغيرة تختار الشجاعة رغم الخوف، والوعي رغم القهر. أما الأغلبية، فهي -بطبيعتها-
تؤثر السلامة، وتطلب الحد الأدنى من البقاء. وهذا لا يُعد خيانة، بل غريزة حياة.
التاريخ يثبت أن
الثورات وحركات التحرر لم تبدأ بأغلبيات متحمسة، بل بأقليات مصمّمة. النخبة هنا
ليست نخبة طبقية، بل "نخبة الفعل"، التي تُقدّم بصيرتها على مصلحتها،
وتتقدم الصفوف رغم الكلفة. إنها تتكوّن من فقراء، ومزارعين، ومثقفين، وصيادين،
وعاطلين عن العمل، وحالمين بحياة تستحق أن تُعاش.
وحين يُطالَب
شعبٌ محاصر، مُجوّع، مهدّد بالإبادة، أن ينهض بكامله ككتلة واحدة، فهذه مطالبة غير
واقعية، وغير عادلة. من يتقدم الصفوف لا يجب أن ينتظر التصفيق، بل يحتاج أن يُفهم.
والمقاومة لا تُقاس بعدد المنخرطين فيها، بل بمدى وضوح معناها، وصلابة من ابتدأ
بها، وشرعية الأسباب التي دفعتهم لذلك.
أما الرجل الذي
سقط وهو يرفع الراية البيضاء، فلن يُذكر في كتب العلوم السياسية، لكنه سيبقى شاهدا
على حقيقة كبرى: أن الاحتلال لا يرحم أحدا، ولا يُميّز بين مقاتل ومسالم. وأن من
اختاروا المواجهة، رغم الكلفة، لم يكونوا سبب الدمار، بل قرأوا مبكرا أن الموت
قادم على أي حال، وأن مقاومته أشرف من انتظاره.