قضايا وآراء

رسائل من خيمة تهزّها الريح: كيف تعلّمتُ أن أتنفّس تحت الحرب؟

أمل البحابصة
"كل شيء يدعوك للبكاء، للحزن، للوجع الصامت"- عربي21/ علاء اللقطة
"كل شيء يدعوك للبكاء، للحزن، للوجع الصامت"- عربي21/ علاء اللقطة
أنا من مدينة الحب.. والحرب. مدينةٌ لم تعرف الهدوء يوما، نعيش فيها داخل خيام بلا جدران، لا تحمينا من حرّ الصيف، ولا من برد الشتاء المتسلل من كل جهة. مع كل موجة حر، ومع كل عاصفة باردة، تنسكب الذكريات علينا كالمطر، لكنها ليست ذكريات حنونة.. بل مؤلمة، دامية، تجرّ وراءها الخوف.

 لا أمان هنا.. لا استقرار. في النهار يُسمع القصف، ويُرى الدمار. وفي الليل يبدأ الكابوس الحقيقي. لا إنارة سوى ضوء خافت يتوسل الحياة، وأضواء أخرى.. ليست لنا، بل لانفجارات وقذائف تمزق السماء. متى نخاف؟ لا ندري. فالخوف أصبح مقيما فينا.. لا يأتي ويذهب. نخاف من الفقد، من الوجع، من الجوع، من انقطاع الماء. لا مجال للضحك هنا، كل شيء يدعوك للبكاء، للحزن، للوجع الصامت.

أعيش بين الأنقاض، لكنني لا أنتمي إليها. روحي ترفض أن تتحوّل إلى حطام، ما زلت ألتقط الأمل كما نلتقط إشارات ضعيفة من شبكة ميتة. أنا لست خارقة.. أنا فقط إنسانة تحاول أن تبقى إنسانة، في عالم يريدها أن تصبح حجرا

كيف تعلّمت أن أتنفّس؟ الأمر لم يكن صمودا خارقا.. بل كان كارثيا، طاغيا، فوق طاقة بشرية، كل شيء حولنا يدعو للانهيار، للجنون، ومع ذلك.. بقينا. ليس لأننا أبطال خارقون، بل لأن الله كان أقرب إلينا من صوت القذيفة. دعاؤنا كان نافذتنا حين سُدّت النوافذ، صلاتنا لم تكن مجرد فرض، بل استغاثة، نضع جباهنا على الأرض، نهمس: "يا الله.. نجِّنا من الليل".

كنا نتنفّس ببطء.. كما لو أننا نخشى أن يلتقطنا الموت من شهقة زائدة. في كل شهيق دعاء، وفي كل زفير نجاة. أنقذتنا أشياء بسيطة، صديقٌ حنون لم يهرب حين تهشّمنا، يدٌ على الكتف تقول دون صوت: "أنا هنا". أنقذنا تأمل السماء.. كنا ننظر نحوها لا بحثا عن نجمة، بل عن دليل حياة. نراقب غيمة تمرّ فوقنا.. فنهمس: "هذه الغيمة حرّة، فربما سنكون كذلك يوما". في لحظة قهر، كانت السماء طوق نجاة. نبحث فيها عن إشارة، عن لون، عن ومضة، أي شيء يقول: "أنتم لستم وحدكم".

 كنا ننجو لأن في داخل كل واحدٍ منا بقعة ضوء صغيرة.. لا يراها أحد، لكن الله يراها. تلك البقعة كانت تصرّ على الحياة، حتى لو انهار كل شيء.

رسالة من قلب الحرب إلى تلك التي لا تعرف الخيام عزيزتي المدلّلة، أنتِ التي لم تعرفي من قبل سوى الكاميرا، واللابتوب الذي كنتِ تستخدمينه لمعالجة الصور، ثم تحتارين.. أي مطعم تقضين فيه وقتك، وأي قهوة تستحق "الاستراحة" مع صديقاتك. دعيني أخبرك شيئا لم تتوقعيه يوما: أنا الآن أعيش كأني عائدة إلى العصور الأولى. أُشعل النار بيدي لأطهو ما تبقى، أبحث عن الحطب كما تبحثين عن شبكات الواي فاي. أعيش في خيمة هشّة، تحركها الريح كما تحرّكنا أصوات الانفجارات، وكما تهتز قلوبنا برنة هاتف مفاجئة..
إن كنت تقرأ كلماتي الآن.. فاعلم أنني تنفّست ببطء، وانتظرت الكهرباء، وحاولت ألّا أبكي على لوحة المفاتيح، فقط لأكتب هذا السطر لك. أنا أمل، وما زال في اسمي وعدٌ صغير.. بأن شيئا جميلا سيولد من هذا الركام
نخاف أن تحمل خبرا لا تُحتمل قراءته. أتنقّل الآن بعربة يجرّها حمار، نعم.. لم أعد أعرف الطرق الإسفلتية، فقط دروب ترابية، غبار، وحواجز من الحنين. كابوسي ليس رواية خيالية.. بل واقع أتنفسه. شاهدتُ الانفجارات بعيوني، وخرجت من تحت الركام بشقّ الروح، أعدّ أنفاسي، وقد تشبعت برائحة الإسمنت المتناثر..

صحيح يا عزيزتي.. فقدتُ صديقة كانت جزءا من قلبي. رفيقة العمل والضحك والهمس، رحلت فجأة، بلا وداع، بلا عودة، بلا حتى صورة أخيرة تجمعنا.

رغم كل شيء.. أنا هنا رغم الليل الطويل، ورغم الأصوات التي لا تُشبه إلا الموت، ورغم أن قلبي صار يعرف صوت الطائرات أكثر من صوت الموسيقى.. أنا ما زلت هنا. أكتب، لا لأنني قوية.. بل لأن الكتابة هي ما تبقّى مني. أعيش بين الأنقاض، لكنني لا أنتمي إليها. روحي ترفض أن تتحوّل إلى حطام، ما زلت ألتقط الأمل كما نلتقط إشارات ضعيفة من شبكة ميتة. أنا لست خارقة.. أنا فقط إنسانة تحاول أن تبقى إنسانة، في عالم يريدها أن تصبح حجرا.

إن كنت تقرأ كلماتي الآن.. فاعلم أنني تنفّست ببطء، وانتظرت الكهرباء، وحاولت ألّا أبكي على لوحة المفاتيح، فقط لأكتب هذا السطر لك. أنا أمل، وما زال في اسمي وعدٌ صغير.. بأن شيئا جميلا سيولد من هذا الركام.

(كاتبة ومدونة من غزة)
التعليقات (0)