قضايا وآراء

في قلب العتمة: لماذا يبدو الفجر أقرب مما نظن؟

عدنان حميدان
"ما نمر به هو لحظة كشف كبرى، تُعاد فيها صياغة الوعي الجمعي للمنطقة، ولو بثمن باهظ"- التواصل الاجتماعي
"ما نمر به هو لحظة كشف كبرى، تُعاد فيها صياغة الوعي الجمعي للمنطقة، ولو بثمن باهظ"- التواصل الاجتماعي
شارك الخبر
كلما أمعنتُ النظر في مسار الأحداث من حولنا، وفي هذا السيل الجارف من الدماء والتضحيات والشهداء، ازداد يقيني -لا بوهمٍ مريح ولا بأمنية عابرة- بل بقناعة ثقيلة ومؤلمة، أن وراء كل هذا الألم تدبيرا إلهيا عظيما، يتجاوز قدرتنا المحدودة على الفهم، ويتحدى منطق الحسابات السياسية الباردة.

نحن في قلب العتمة، نعم؛ عتمة كثيفة لا تُنكر، تتكدس فيها صور الأطفال تحت الركام في غزة، وتتعاظم فيها المخاوف على سوريا، وتفرض فيها أوجاع السودان، وخرائط الدمار في لبنان، ومؤمرات تقسيم الصومال، مع ذاكرة فلسطين المثقلة بقرنٍ من الجراح.. لكن وسط هذا السواد، ثمة إحساس يتنامى، عنيد ومقلق في آن، بأن الفجر أقرب مما نتصور، وأن هذا الليل -على طوله- ليس أبديا.

غزة اليوم ليست مجرد بقعة جغرافية محاصرة، بل مرآة مكشوفة للعالم كله؛ فيها تتعرّى منظومة القيم الدولية، وتسقط الأقنعة تباعا، ويُختبر معنى الإنسان وكرامته بلا وسائط ولا شعارات. الدم هناك لا يُسفك في الفراغ، بل في قلب نظام عالمي يراقب، ويبرر، ويتواطأ، ثم يتساءل ببرود عن "الاستقرار".

غزة اليوم ليست مجرد بقعة جغرافية محاصرة، بل مرآة مكشوفة للعالم كله؛ فيها تتعرّى منظومة القيم الدولية، وتسقط الأقنعة تباعا، ويُختبر معنى الإنسان وكرامته بلا وسائط ولا شعارات

وما يحدث في غزة ليس استثناء معزولا، بل حلقة في سلسلة طويلة من الألم العربي الممتد. في سوريا، حيث تحوّل الوطن إلى مسرح مفتوح لكل أنواع التآمر، لم يكن الدم أرخص من غزة، بل أسبق زمنا.. في السودان، حيث تُذبح البلاد على مرأى العالم، تختلط الحرب بالنهب، ويُترك الشعب فريسة لصراع لا صوت له في نشرات الأخبار.. في لبنان، بلد الإنهاك المزمن، يتراكم الانهيار الاقتصادي والسياسي فوق ذاكرة حروب لم تُشفَ بعد. وفي فلسطين، الجرح المفتوح الذي لم يُسمح له يوما أن يلتئم.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس: لماذا كل هذا الألم؟ فالتاريخ، لمن يقرأه بصدق، لا يخلو من الإجابة. السؤال الأعمق هو: ماذا يُراد لنا أن نرى وسط هذا الركام؟

ثمة من يقرأ هذه اللحظة بوصفها نهاية، انكسارا نهائيا، أو دليلا على عبثية المقاومة ومعنى الصمود. لكن ثمة قراءة أخرى، أكثر قسوة وأشد صدقا، ترى أن ما نمر به هو لحظة كشف كبرى، تُعاد فيها صياغة الوعي الجمعي للمنطقة، ولو بثمن باهظ.

لم تعد الأكاذيب الكبرى صالحة للتسويق، لم يعد خطاب "حقوق الإنسان" محايدا، لم تعد التحالفات الدولية أخلاقية، ولم تعد الشعوب ترى العالم بعين واحدة. هذا الانكشاف، بكل ما يحمله من وجع، هو في ذاته تحوّل استراتيجي في ميزان الوعي، وربما في ميزان التاريخ.

التدبير الإلهي -كما أفهمه- لا يعني غياب الألم، ولا وعدا فوريا بالنصر، ولا قراءة تبسيطية للأحداث، بل يعني أن هذه التضحيات، على فداحتها، ليست بلا معنى، وأن ما يُزرع اليوم بالدم والدمع، قد يُحصد غدا وعيا، وكرامة، وتحولا عميقا في مسار الأمة.

نحن نعيش مرحلة سقوط اليقينيات الزائفة، مرحلة يُعاد فيها تعريف القوة، لا بوصفها سلاحا فقط، بل صبرا، ووضوح موقف، ورفضا للانكسار الداخلي. وغزة، بكل ما تعانيه، أصبحت مركز هذا التحول الرمزي، حيث يُقاس الصدق لا بالكلام، بل بالثمن المدفوع.

قد يبدو الحديث عن فجر قريب ضربا من الترف العاطفي في زمن المجازر، لكن التاريخ يعلمنا أن الفجر لا يولد في ساعات الراحة، بل في أقسى لحظات الليل، وأن التحولات الكبرى لا تبدأ حين تكون الكفة متوازنة، بل حين يبدو الميزان مختلا تماما.

الفجر الذي نقصده ليس انتصارا عسكريا سريعا، ولا معجزة سياسية تهبط من السماء؛ هو فجر الوعي أولا، فجر إعادة التموضع الأخلاقي، فجر كسر الخوف، وفجر إدراك أن هذه المنطقة، رغم كل ما أصابها، لم تُهزم من الداخل بعد.

نعم، الطريق طويل، والنصر -كما قلنا- قاسٍ، لا يأتي بلا أثمان، لكن ما نراه اليوم من انكشاف، ومن تشقق في السرديات الكبرى، ومن تصدّع في صورة القوة المطلقة، ليس بلا دلالة؛ هو إشعار مبكر بأن هذا الليل، مهما طال، لا يملك مفاتيح الخلود.

رغم هذا الكم الهائل من الخسارة، يشعر كثيرون بأن هذا الليل، مهما طال ليس بلا نهاية؛ ليس لأن الواقع أقل قسوة مما نراه، بل لأن ما انكشف لم يعد قابلا للعودة إلى ما كان عليه، ولأن لحظات التحول الكبرى لا تبدأ حين يكون الميزان متوازنا، بل حين يبدو مختلا إلى أقصى حد

ولعل السؤال الأصدق الذي يفرض نفسه في ختام هذا المشهد ليس عن مآلات السياسة، بل عن تحولات الوعي؛ ما الذي يدفع شبانا بريطانيين، في مقتبل العمر، نشأوا في بيئة مستقرة، ويتمتعون بكل ما يُفترض أنه ضمانات للراحة والأمان، إلى الإضراب عن الطعام لعشرات الأيام وهم خلف القضبان، مدركين تماما كلفة ذلك على أجسادهم وحياتهم؟ ما الذي يجعلهم يختارون العزلة والإنهاك بدل الصمت المريح، ويضعون أجسادهم في الواجهة حين تعجز الكلمات؟

وما الذي يدفع فنانين ومؤثرين غربيين -صُنعت أمجادهم في فضاء تحكمه الحسابات الدقيقة، والرعايات، والخوف من الإقصاء- إلى المخاطرة بمكانتهم، وعقودهم، ومنصاتهم، في سبيل موقف واضح إلى جانب المستضعفين؟ ما الذي يجعلهم يقبلون بالتشويه، والعزل، وربما خسارة كل ما بنوه، بدل الاكتفاء بتضامن آمن لا يكلّف شيئا؟

هذه الأسئلة لا يُجاب عليها بالشعارات، ولا تُختصر بتوصيفات ساذجة عن "اندفاع" أو "تعاطف عابر"، نحن أمام لحظة أعمق من ذلك بكثير، لحظة يصبح فيها الصمت تواطؤا، وتتحول الراحة إلى عبء أخلاقي، ويغدو الوقوف في المنتصف ضربا من الهروب؛ لحظة يعيد فيها الأفراد -خارج دوائر الصراع المباشر- تعريف موقعهم من الظلم، لا بوصفه خبرا بعيدا، بل امتحانا شخصيا.

وحين نضع هذه المشاهد جنبا إلى جنب -من الزنازين إلى الجامعات، ومن المسارح إلى منصات التواصل- يتضح أن ما يجري ليس سلسلة أفعال معزولة، بل مؤشرات على تصدع عميق في السرديات السائدة، وعلى إعادة ترتيب بطيئة لكن ثابتة لميزان الوعي، ميزان لا يقيس الأمور بعدد البيانات ولا بقوة السلاح، بل بوضوح الموقف، وبالاستعداد لدفع ثمنه.

ربما لهذا السبب، وبرغم هذا الكم الهائل من الخسارة، يشعر كثيرون بأن هذا الليل، مهما طال ليس بلا نهاية؛ ليس لأن الواقع أقل قسوة مما نراه، بل لأن ما انكشف لم يعد قابلا للعودة إلى ما كان عليه، ولأن لحظات التحول الكبرى لا تبدأ حين يكون الميزان متوازنا، بل حين يبدو مختلا إلى أقصى حد.

في قلب العتمة، لا يولد الجواب الجاهز، بل السؤال الحقيقي، ومع السؤال.. يبدأ الفجر.
التعليقات (0)