قضايا وآراء

حين تتحوّل "الأندلس" إلى أداة تحريض معاصر

عدنان حميدان
"ليس من حق أحد أن يشيطن تاريخا كاملا ليُدين حاضرا كاملا، ولا أن يستخدم الأندلس كذريعة لإعادة تدوير خطاب الخوف من المسلمين"- جيتي
"ليس من حق أحد أن يشيطن تاريخا كاملا ليُدين حاضرا كاملا، ولا أن يستخدم الأندلس كذريعة لإعادة تدوير خطاب الخوف من المسلمين"- جيتي
شارك الخبر
ليس كل نقدٍ تاريخي بحثا معرفيا، وليس كل تفكيكٍ للسرديات عملا علميا بريئا. فالتاريخ -حين يُنزَع من سياقه، ويُعاد توظيفه بلغة سياسية انتقائية- يتحوّل من مجال للفهم إلى أداة تحريض، ومن مساحة للجدل إلى سلاح أيديولوجي موجّه.

من هذا الباب تحديدا، لا يمكن التعامل مع الخطاب الذي تقدّمه الكاتبة روضة الطنيجي بوصفه "رأيا مختلفا" أو "قراءة بديلة للتاريخ"، بل بوصفه نموذجا لكتابة مسيّسة تتوسّل التاريخ لتجريم الحاضر، وتستدعي الأندلس لا لفهمها، بل لإدانة المسلمين المعاصرين أخلاقيا وسياسيا.

1- ليست قراءة تاريخية.. بل بيان اتهام

المدخل التعريفي لكتاب "Andalusion" لا يترك مجالا للالتباس، فالكتاب يصرّح منذ البداية أنه "ليس كتاب تاريخ"، بل عمل "ساخر/ فلسفي/ سياسي"، ويقدّم نفسه كـ"تفجير فكري". غير أن "التفجير" هنا لا يستهدف بنية معرفية جامدة، بل قيمة إنسانية أساسية: التعايش.

هذا ليس تفكيكا لأسطورة، بل صناعة أسطورة مضادة: أسطورة أن كل حديث عن التعايش خدعة، وكل استدعاء للتاريخ الإسلامي مؤامرة، وكل حضور مسلم في المجال العام مشروع اشتباه

حين يُطرح سؤال من نوع: "ماذا لو لم يكن التسامح هدفا، بل طُعما؟"، فنحن لسنا أمام مساءلة فلسفية، بل أمام افتراض إدانة مسبق، يُعاد إسقاطه على تاريخ الأندلس، ثم يُهرب -بلا أي جسر علمي- إلى الواقع السياسي المعاصر.

هذا ليس تفكيكا لأسطورة، بل صناعة أسطورة مضادة: أسطورة أن كل حديث عن التعايش خدعة، وكل استدعاء للتاريخ الإسلامي مؤامرة، وكل حضور مسلم في المجال العام مشروع اشتباه.

2- الأندلس: تاريخ حضاري.. لا سجلّ إجرام

الأندلس، كغيرها من التجارب الإنسانية، لم تكن مثالية ولا منزّهة عن الصراع، لكن تصويرها بوصفها "أسطورة مصقولة" هدفها التمويه، هو تزوير بالسياق لا قراءة نقدية.

الفارق الجوهري الذي تتجاهله هذه الكتابات -عمدا أو عجزا- أن الأندلس لم تُنتج نظام إبادة دينية، بينما أنتجت إسبانيا الكاثوليكية لاحقا محاكم التفتيش التي مارست القتل والتعذيب والطرد القسري بحق المسلمين واليهود وغيرهم، في سجل دموي موثّق لا يحتاج إلى "سخرية فلسفية" لإثباته.

فحين يُمحى هذا الفارق، وحين يُساوى بين تجربة حضارية مركّبة وبين واحدة من أكثر مؤسسات القمع الديني وحشية في التاريخ الأوروبي، فنحن لا نمارس نقدا، بل قلبا أخلاقيا للوقائع.

3- من التاريخ إلى الحاضر: القفزة غير البريئة

الأخطر في هذا الخطاب ليس موقفه من الأندلس، بل وظيفته المعاصرة. فحين تُصوَّر الأندلس كـ"حملة علاقات عامة لانتهازية إسلاموية"، وحين يُربط "الحنين التاريخي" بالـ"تطرف"، وحين يُوصف الاحتجاج السياسي بأنه "موعظة”" فإن الرسالة الحقيقية ليست تاريخية، بل سياسية بامتياز:

- المسلم المعاصر ليس مواطنا، بل وريث مشروع مريب.

- الخطاب الأخلاقي ليس حقا إنسانيا، بل وسيلة اختراق.

- الاحتجاج ليس فعلا سياسيا، بل غطاء ديني.

هذه ليست استنتاجات عَرَضية، بل النتيجة الطبيعية لمنهج يكتب بخلفية أمنية لا معرفية.

4- المنهج: غياب العلم وحضور الأجندة

أي عمل يدّعي تفكيك "سردية كبرى" يفترض منهجيا:توثيقا صارما، وتفريقا بين التاريخ والذاكرة، وفصلا بين الدين والتيارات السياسية، وتحليلا سياقيا لا إسقاطيا.

نموذج يهاجم المسلمين من داخل خطاب "التنوير"، ويجرّم وجودهم باسم "العقلانية"، ويقدّم نفسه كبديل أخلاقي، بينما يعيد إنتاج أقدم صور الإقصاء

ما نراه هنا هو العكس تماما: لغة تسويقية، عناوين صادمة، تعميمات فضفاضة، وقفز من القرن العاشر إلى الحرم الجامعي المعاصر دون أي جسر معرفي حقيقي. هذا ليس ضعفا منهجيا عابرا، بل اختيار واعٍ، لأن الهدف ليس الفهم، بل التأثير والتعبئة.

5- لماذا هذا الخطاب خطير؟

لأن هذا النوع من الكتابة:

- يوفّر غطاء "ثقافيا" لخطاب معادٍ للمسلمين.

- يجمّل الشك الجماعي بلغة "تفكيك الأساطير".

- يُنتج نسخة "ناعمة" من الإسلاموفوبيا، لا تصرخ، لكنها تُقنِع.

الخطر هنا ليس في كاتبة بعينها، بل في النموذج الذي تمثّله: نموذج يهاجم المسلمين من داخل خطاب "التنوير"، ويجرّم وجودهم باسم "العقلانية"، ويقدّم نفسه كبديل أخلاقي، بينما يعيد إنتاج أقدم صور الإقصاء.

نعم، من حق أي كاتب أن ينتقد الإسلاميين، أو أي تيار سياسي، لكن ليس من حق أحد أن يشيطن تاريخا كاملا ليُدين حاضرا كاملا، ولا أن يستخدم الأندلس كذريعة لإعادة تدوير خطاب الخوف من المسلمين.

إن أخطر الأساطير اليوم ليست "أسطورة الأندلس"، بل أسطورة أن المسلمين مشروع خداع تاريخي مستمر، وأن كل قيمة إنسانية يتحدثون عنها ليست سوى طُعم. هذه الأسطورة -لا الأندلس- هي التي تستحق التفكيك، لأنها تهدّد التعايش، وتمنح العنصرية لغة مهذبة، وتحوّل التحريض إلى "رأي فكري".
التعليقات (0)