في
التاسع عشر من تشرين الأول/ أكتوبر سنة 2003م،
حُرِمت دولة
البوسنة من مثال الأب مُجسَّدا في أول رئيس لها. ورغم أنه كان يُبغض
آباء الدول القوميَّة الحديثة، ويُبغض تلقيبه بذلك، إلا أن قدره كان يسوقه ليصير "منهم"؛
ممن أيقظوا في شعوبهم الروح القوميَّة، وانتزعوا "استقلالها" انتزاعا من
بين أنياب المعتدين. لذلك، عُدَّ علي عزَّتبيغوڤيتش -بحقٍّ- واحدا من أهم قادة البوسنة على
الإطلاق أو على الأقل أهمهم في آخر خمسة قرون من تاريخها. ذلك أنه لم يستنقذ شعبه
من الحصار والذبح والإبادة فحسب، ثم يحدوه إلى السلام الذي أتاح له إعادة توظيف
مُقدَّراته، وبناء مؤسساته؛ بل لأنه -بحركته وتصوراته، ودأبه وصموده- صار جزءا لا
يتجزأ من وعي البوشناق بذاتهم القوميَّة، إن لم يكُن وجوده ودأبه وإصراره هو ما
استفزَّ وجود هذه الذات أصلا، واستخرجها في العصر الحديث. فصار بذلك لا من بُناة
الدول القلائل الذين يُجلُّهم خصومهم فحسب، بل أضحى بالأساس من "بُناة الشعوب"؛
الذين صاغوا وجدانات أقوامهم ولعبوا دورا لا بديل عنه في تحطيم القيود التي كانت
تُكبِّلُ تطلُّعات شعوبهم.
وكما
تكشف سيرته، التي تنشر تنوير للنشر والإعلام (مصر) ترجمتها الكاملة الدقيقة هذا
الشهر (كانون الأول/ ديسمبر 2025م)؛ فقد تشكَّل عزَّتبيغوڤيتش نفسه
مُتأثرا بعدد من الروافد المهمة. إذ لم تكُن دراسة القانون، أو السجن، أو مُطالعة
الفلسفات المثاليَّة، أو العمل في مجال الإنشاءات، وحدها هي الروافد المركزية في
تكوينه؛ بل مثَّلت خبرته المبكرة مع تنظيم "الشبان المسلمين" في البوسنة
أفقا مهمّا لخبراته السياسية والاجتماعيَّة. لقد كان إدراك تلك الحركة للإسلام
إدراكا حداثيّا، عُدَّ في جوهره خروجا غريبا على الرؤية الإسلاميَّة
التقليديَّة في البلقان، وذلك إذ تتعاطى الحركة مع الإسلام بوصفه أداة للصراع
الأيديولوجي. وهي رؤية سجاليَّة حداثيَّة، مُباينة للإسلام كما أدركه العلماء
التقليديون، واستقرَّت به ثقافتهم عبر القرون. وقد انطلق الشبان المسلمون في
بلورتهم لتصوراتهم الجديدة في
الفكر الإسلامي من واقع سجالهم مع الأيديولوجيات
الوافدة، التي انحاز لها نفرٌ من بني جلدتهم، ثم من تصورات شتَّى الإصلاحيين
المسلمين إبَّان القرن العشرين، خصوصا المصريين منهم. بيد أن الأثر الأعظم والأعمق
قد خلفه الشاعر الفيلسوف محمد إقبال، وذلك نتيجة حزمة من الأسباب التي يُمكن
تلمَّسها منثورة في كتابات عزَّتبيغوڤيتش؛ واحدا تلو الآخر.
كانت
حركة الشبان المسلمين حركة ثقافية نُخبوية (يغلب عليها الانتماء الحضري)؛ "حركة
تأويلية" تُكافح لملاحقة المستجدات الغربية، و"صحوة أخلاقيَّة" بوشناقيَّة
بغير جناح حزبي ولا تنظيم عسكري، كما تؤكد أكثر الدراسات التي تناوَلَتها. إذ كانت
الغاية الأهم لهذه الحركة هي إعادة صياغة الإسلام بوصفه إيمانا حيّا، يُمكن ترجمته
في الواقع إلى مُثُل اجتماعيَّة؛ تُغني عن الأيديولوجيات الغربيَّة ومثاليَّاتها
غير الواقعيَّة، ومن ثم؛ نأت الحركة بنفسها عن الفاشية والشيوعية، وإن ظلَّت
تُساجلهما وتطرح لهما بديلا، وذلك في الوقت نفسه الذي لم تُشارك فيه العلماء
رؤيتهم "التقليديَّة" للإسلام، بوصفه محض شعائر (أو دينٍ مُجرََّد
باصطلاح صاحب السيرة)، أو دين طقسي "عرفاني" لا أثر له في الواقع.
وقد
تشكَّل علي عزَّتبيغوڤيتش ووعيه،
بوصفه جزءا
لا يتجزأ من هذا "التوتُّر الإصلاحي" داخل المشهد الإسلامي البوشناقي،
بل والمشهد الأممي. وهو مشهد تشكَّل من شدٍّ وجذب بين القوى والفاعلين، المختلفين
في تأويلاتهم وخلفياتهم وإن كانوا جميعا يَعُدون الإسلام مُنطلَقَهم. وقد أفرز هذا
التوتُّر دوريات وجرائد وصحف عبَّرت عنه، وقدَّمت الإسلام بوصفه وحيا أخلاقيّا
فعالا ومصفوفة "نهضة ثقافية" للبوشناق. وربما كانت هذه التركيبة هي التي
جعلت لإقبال اللاهوري القدح المُعلَّى، لا في إمداد هذا الرافد القديم فحسب؛ بل في
صياغة سقف المخيلة السياسيَّة وتشكيل أفق المثال الذي سعى إليه عزَّتبيغوڤيتش بعدها،
ربما بغير وعي كامل.
لم يكُن مفتاح هيمنة
إقبال هاهُنا مجرد ظهوره في طليعة حركة إصلاحيَّة، تكوَّنت بعيدا عن المؤسسات
الدينيَّة والدوائر العلمائيَّة التقليديَّة، ولا لأن قسما من تصوراته كان القاعدة
التي تأسَّست عليها دولة پاكستان بوصفها دولة قوميَّة حديثة، وإنما لأنه مثَّل مزجا
"مُلهما" بين الإحياء الإسلامي والبنية القوميَّة الحديثة، ومن ثم؛ نُسب
إليه مشروع "التمكين الإسلامي الحديث" في شبه القارة الهنديَّة. ورغم
عمق تأثُّر صاحب هذه السيرة بتجربة إقبال، خصوصا على المستوى النظري والفلسفي؛ فقد
جاهد لئلا يُحبَس في تصوراتها ولا في تأويلات هذه التصورات، والتي حوَّلت أطراف
شبه القارة الهنديَّة إلى دولة پاكستانية؛ دولة "إسلامية" منبوذة
معزولة، رغم مجاورتها لعدد من "البلدان المسلمة" الأقدم. وقد فصَّل
الأستاذ رأيه -نسبيّا- في تجربة پاكستان، وضمَّنهُ المانيفستو الذي أصدره مطلع
سبعينيات القرن العشرين،[1] والذي حاول فيه رسم مسار لتخطي مواطن تعثُّرها، وتجنُّب أسباب تخبُّطها، وأهمها
على الإطلاق ألا تكون دولته الجديدة: "دولة إسلاميَّة" -بهذا المعنى "القومي
القُطري" المُجرَّب حديثا- في مُحيط أوروپي مُعاد، لئلا تتحوَّل إلى "غيتو
إسلامي"؛ بل أن تصير دولة ديمقراطية علمانية مُنفتحة، يحظى فيها المسلمون
بحقوقهم بحسب المعايير الأوروپية. وبعبارة أخرى، ففي حين كانت عينه على تجربة
پاكستان وقلبه مُعلَّقٌ بها، وببقايا فكر إقبال فيها؛ إلا أن علي عزَّتبيغوڤيتش
كان -في واقع الأمر- يُحاول عمليّا استنساخ المُثُل "العلمانية" التي
جسَّدتها تجربة الهند "الجامعة" في عهد نهرو.
وعندنا أن سبب الهيمنة
النظريَّة لإقبال وتصوراته -على هذا الجيل البوشناقي- لم يكُن قُرب عهدهم بخبرة
تأسيس دولة "إسلامية" تُنسب إليه، بل كان الأهم هو الشعور المشترك -والممض-
بالتناقُض السافر بين الحياة الحديثة، وما يُمكن تسميته مجازا بـ"النظم
الإسلاميَّة التقليديَّة"؛ بسبب التغول الحداثي في السياقين. وهو شعورٌ مصدره
تنامي استشعار النخبة المثقَّفة للهويَّة القوميَّة المؤدية للدولة القومية
الحديثة، بل واختلاط هذه الهويَّة -تدريجيّا- بصورٍ مختلفة من التديُّن، حتى يصير
هذا "التديُّن" هويَّة برانية، وأداة تمايُز قومي. وهو ما تجلَّى أولا
في حركة پاكستان، التي تمخَّضت عن التقسيم المفجع لشبه القارة الهنديَّة بغرض
تأسيس "دولة إسلامية". لقد كانت تلك الحركة ومآلاتها من ثمار انقطاع
الصلة التاريخيَّة والمعرفيَّة للمسلمين الهنود، بالنظم التقليديَّة التي حَكَموا
بواسطتها شبه القارة طوال قرون، وهم أقليَّة؛ بعد إذ تم استيعابهم في رؤية كونية
جديدة، ونظام عالمي جديد، ونُظم سياسية تنبني على قواعد مختلفة؛ جعلتهم يخشون
وجودهم كأقلية بدأت للتو تستشعِرُ أنها كذلك، ومن ثم يسعون إلى حلٍّ لأزمتهم من
جنس الأزمة الحديثة نفسها؛ فقد كانت الدول القومية الحديثة في مجملها ثمرة انسلاخ
سوسيو-معرفي مهول من التصورات الإسلامية، بقدر ما تُعَدُّ تبنيّا كاملا للتصورات
القومية، وتوظيفا للإسلام في تسويغها. وهو ما تم بمباركة وتشجيع القوى
الكولونيالية بطبيعة الحال.
هذا التلاقي الشعوري،
بين مُسلمي البلقان ومُسلمي شبه القارة، هو أهم الروافد التي أسهمت في تشكُّل نمط
بلقاني من الهويَّة "القومية الإسلامية"؛ التي تأسَّست پاكستان على
قاعدتها. ورغم أن عزَّتبيغوڤيتش نفسه قد رفض هذا الهجين قبلها مرارا، ورفض
المشاركة في بلورته بادئ الأمر؛ إلا أنه استسلم أخيرا لمحاولات بلورة هذه الصيغة،
بل وسعى إلى توظيفها في الحفاظ على الوحدة السياسيَّة للبوشناق ثم وحدة البوسنة
نفسها.
لقد كَمُنَ تصور
الإسلام بوصفه "هويَّة قومية" عند جيل العلامة إقبال، لكنَّه لم يَبرُز
على يديه تنظيرا ولا ممارسة، بل برز عند عدد مُتزايد من مفكري الإسلام في الأجيال
التالية وخصوصا في شبه القارة الهنديَّة. إذ لم يستطع المفكرون المسلمون الانسلاخ
قبلها -ولو جزئيّا- من هيمنة "الأممية الإسلامية"، إبَّان ذلك التوقيت
المبكر مطلع القرن العشرين، وإن كان بعض مُسلمي الهند أنفسهم قد ارتدُّوا جزئيّا -على
مستوى الحياة اليومية- إلى التقسيمات العرقية والإقليمية: سندي وپنجابي وغوجاراتي
وبنغالي.. إلخ. ومع ضغط الواقع الذي تتنامى فيه الأيديولوجية القومية، والتقسيمات
الجاهلية؛ تم المزج بينهما في لون عجيب من ألوان الانتماء الهجين الفيزيقي- الميتافيزيقي،
وسُمي بـ"القومية الإسلامية"، والتي حملت "الرابطة الإسلامية"
وحركة پاكستان لوائها.
وسيصير هذا التصور
نفسه -آخر الأمر- هو سقف علي عزَّتبيغوڤيتش وقدره المأساوي، كما ستكشف عن ذلك
سيرته -التي اضطلع بترجمتها مؤخرا مُترجم شاب مُتقن-[2] وذلك جرَّاء مُعاناته لتحديات "الاستئصال القومي" في البلقان. إذ رغم
رفضه -بادئ الأمر- لتعريف النظام اليوغوسلافي للإسلام بوصفه هويَّة قومية إثنيَّة؛
إلا أنه استجاب لهذا التصنيف لاحقا، ولما انبنى عليه، حين وجد أن الرابطة الجامعة
الوحيدة الممكنة (في ظل رغبته بناء جمهورية ديمقراطية علمانية تعدُّدية) هي بناء
هوية قوميَّة لشعبه؛ تسمح بتوحيده لاستنقاذه من الإبادة. لقد ظلَّ البوشناق طوال
تاريخهم أقلية سكانية داخل إمبراطورية ما بالمعنى السياسي، أو رافدا في أمة أكبر
بالمعنى الديني، ولم يتبلور عندهم أدنى وعي بالذات القوميَّة -بمعناها الإثني
الحديث- بالحدَّة ولا بالوضوح الذي تبلور به مثل هذا الوعي السام عند الصرب
والكروات -وغيرهم من شعوب أوروپا- مما جعل البوشناق مُهدَّدين بالابتلاع إما
بوصفهم "صربا" قد اعتنقوا الإسلام، أو حتى "كرواتا" مسلمين. ولم
يعُد ثمة سبيل للتجاور "السلمي" في سياق علماني إلا بتعريف البوشناق
تعريفا عرقيّا يؤخر ابتلاعهم ولو إلى أجل.
وكما يؤكد صاحب هذه
السيرة نفسه في أكثر من موطن، فقد كانت طبيعة ما يُمكن تسميته بـ"المشروع
البوسنوي" هي سبب الكوارث المزلزلة التي حاقت بشعبه، ويعني: الدولة
الديمقراطية العلمانية الجامعة للأعراق والأديان. فقد اضطرته طبيعة هذا المشروع
نفسها إلى القبول بـ"أهون الشرين" -من وجهة نظره!- وهو إعادة تعريف شعبه
إثنيّا ودينيّا، حتى رُفع بين نفرٍ منهم إلى مرتبة موسى عليه السلام بين بني
إسرائيل. لكنَّ هذا التعريف الجديد لم يكُن تمايُزا حقيقيّا للبوشناق، يُعيد تعريف
هويتهم ووجودهم؛ بل كان تعريفا إجرائيّا هشّا، غايته تعيين عدَّة معالم لخصوصية
ماديَّة ما -ولو كانت مُلفَّقة- بغية استنقاذهم من بين أنياب فراعين الصرب
والكروات. ولأن عمليَّة خلق "الشعوب المتخيَّلة" تؤدي -في نهاية الأمر- إلى
كوارث فكريَّة واجتماعيَّة؛ فقد كان إحياء هذه الهويَّة الخرافيَّة مؤديا إلى
عبثيَّة كاسحة في الأجيال التالية (بل وفي الجيل الأول نفسه كما شكا الأستاذ -في
هذه السيرة نفسها- من تسوية "المعارضة" بين المعتدي على البوسنة
والمدافع عنها!)، وإلى خسارة البوشناق لروحهم وهويتهم، كما تنبأ هو نفسه قُرب
نهاية هذه السيرة التي كادت تصل إلى أيدينا.
لقد أفضى عدم وعي
البوشناق بذاتهم القوميَّة إلى اختيارهم الإسلام أول الأمر -بالرضا- بوصفه
قوميَّة، وهو تعريفٌ يحفظ لهم روابطهم الأممية، بيد أن الدمج الواعي للنغمة
البوشناقيَّة، حتى تَغلِب على هذا المزيج في المعركة السياسية والعسكريَّة الشرسة (لتأسيس
دولة علمانيَّة جامعة)؛ قد منحهم هويَّة إثنيَّة مُتخيَّلة، وتمايُزا كان يزيد
انفصالهم الجمعي عن الأمة -بقدر ما زاد مُفاصلتهم للصرب والكروات- كلما ازدادت
حرارة رغبتهم بالذوبان في أوروپا، وهي معضلة تُشبه المعضلة التركيَّة التي تسبَّب
بها الكماليون. إنها معضلة التحول الحتمي للشعب العضوي "موضع الحلول" إلى
شعبٍ "مُنغَلِق" في دولة "مُنفَتِحة"، بدل أن يظلَّ طرفا
دعويّا وأمميّا منفتحا لانضمام أصحاب الأعراق الأخرى؛ بمجرد اعتناقهم الإسلام. أي
أن الهويَّة القوميَّة البوشناقيَّة قد وظِّفَت -بغير وعي؟!- لتحول بين الصرب
والكروات، والتديُّن بالإسلام.
وللحديث بقية إن شاء
الله.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry
__________
[1]- راجع: علي
عزَّتبيغوڤيتش، الإعلان الإسلامي (تنوير للنشر والإعلام، 2023م).
[2]- هو الطبيب المصري المتفنن أحمد شكري مجاهد.