حين اعترض كثيرون على توقيع الرئيس البوسنوي الراحل علي عزت بيغوفيتش على
اتفاق دايتون للسلام في
البوسنة والهرسك عام 1995، كان رد الرئيس أنه يشاركهم
الاعتراض نفسه. وأضاف أن هذا الاتفاق لن يجلب السلام للبلاد لكنه على الأقل سيوقف
الحرب، وأنه يريد أن تقوم الأجيال القادمة بدورها في هذه المعركة. وها هو الزمن
يكشف بعد ثلاثة عقود أن مسلسل الفظائع لا يزال مستمرا، وأن الأجيال الجديدة على
موعد من فصول مختلفة من هذه الحرب التي شهدت فظائع يندى لها الجبين. من هذه
الفظائع مسائل سياحة قنص المسلمين التي مارسها عدد من الأوروبين على مدار أربعة
سنوات أثناء الحرب، من 1992 وحتى 1996.
شرارة الجدل
أشعلها ما كشف عنه مؤخرا الكاتب الصحفي الإيطالي إتسيو جافاتسيني من وجود سياحة
أثرياء أثناء الحرب في البوسنة. إذ كان يذهب أثرياء من إيطاليا وألمانيا وفرنسا
وبريطانيا في رحلات لممارسة هواية القنص، وبدلا من قنص الحيوانات يقنصون المدنين
العزل في البوسنة بغرض التسلية. النيابة العامة في ميلانو في إيطاليا فتحت تحقيقا
في الأمر، وهو الأمر نفسه الذي فعلته النيابة البوسنوية قبل نحو ثلاث سنوات عندما
تسربت أنباء عن الموضوع ذاته.
حرب البوسنة لا تزال جرحا مفتوحا لم يفلح مرور السنين على مداواته، وهذا يعني أن أخبارا أخرى قد تكون في الطريق حول أهوال ومآسي هذه الحرب التي أعادت شبح الحربين العالميتين إلى قلب أوروبا من جديد
وبعيدا عن الشق
القضائي والقانوني في المسألة فإن الأمر يسترعي الانتباه لعدة أمور:
الأمر الأول
والأهم، أن حرب البوسنة لا تزال جرحا مفتوحا لم يفلح مرور السنين على مداواته، وهذا
يعني أن أخبارا أخرى قد تكون في الطريق حول أهوال ومآسي هذه الحرب التي أعادت شبح
الحربين العالميتين إلى قلب
أوروبا من جديد. كما أن آليات المحاسبة القانونية
والسياسية لم تكن بالقدر الكافي الذي يرمم الشرخ الذي أصاب المجتمع في البلقان ولا
أن يكشف عن كل ما جرى، وإلا لما علت أصوات تقسيم البوسنة نفسها بعد كل هذه السنوات،
لدرجة أن تقوم كل من ألمانيا والنمسا بالإعلان عن عزمهما منع زعيم صرب البوسنة الانفصالي
ميلوراد دوديك واثنين من أقرب مساعديه من دخول البلدين على خلفية مساعيهم الانفصالية.
ودوديك هذا حليف رئيس لكل من روسيا وصربيا.
الأمر الثاني هو
مشاركة عدة جنسيات في سياحة القنص المجرمة تلك؛ من دول أوروبية يفترض في رعاياها
أن يكونوا متعاطفين مع الضحايا المسلمين ورافضين لما يجري، باسم
حقوق الإنسان أو
الجوار الأوروبي أو الأمن القومي. لكن أن يكون وراء هذه السلبية الرسمية قدر من
اللامبالاة الشعبية تصل لحد المشاركة في القتل بغرض التسلية؛ فهذا ناقوس خطر يكشف
عن نظرة هذه النخب الغنية للمسلمين في تلك البلدان الأوروبية الأخرى. فالبوسنويون
ليسوا مهاجرين وإنما أصحاب أرض أصليين، وليس هناك مبرر لا قومي ولا سياسي ولا
مصلحي لمثل هذه الأفعال.
الأمر الثالث أن
صراع النفوذ في البلقان قائم ولا يزال يغلي لكن تحت الرماد. وأتصور أنه لولا
النفوذ التركي الحالي هناك لكان الوضع أسوأ مما هو عليه الآن، في ظل تخاذل كثير من
القوى العربية والإسلامية والدولية عن مد يد العون لهذه الشعوب الأوروبية المسلمة.
وزير خارجية البوسنة
والهرسك علم الدين قوناقوفيتش ذكر العام الماضي في تصريحات لوكالة الأناضول أن
أنقرة تلعب دور وساطة جادة في البلقان، نظرا لعلاقاتها الجيدة بمختلف الأطراف.
والواقع على الأرض يؤيد هذه التصريحات، فالمسألة ليست مجرد علاقات دبلوماسية وطيدة
بقدر ما تقدم تركيا نفسها للبوسنويين وكل الأطراف أنها حليف استراتيجي تاريخي
للبوسنة والهرسك. والتداخل في مجريات الشأن الداخلي البوسنوي كبير، لدرجة أن
الرئيس التركي ما فتئ يحذر من مخاطر انفصال صرب البوسنة علانية منذ عدة أشهر.
x.com/HanyBeshr