أسلفنا
الحديث -في مقالنا السابق- عن بعض المؤثرات الفكريَّة المفتاحيَّة، التي صاغت صاحب
هذه السيرة/
المذكرات، وعن السياق الذي ترك أثره الغائر الفعال في نفس صاحبها،
أحيانا رغم وعيه بذلك.
وإن
هذا الكتاب الذي آثرنا تسميته: "سيرة ذاتيَّّة" في محاولة
للموازنة بين عنوان الترجمة القديمة المشهور، والعنوان البوسنوي الأصلي: "مذكرات"؛
ليس مُجرَّد تجسيد لفلسفة
علي عزَّتبيغوڤيتش السياسيَّة فحسب، ومحاولة لتتبُّع تنزيله للتنظير
السياسي -خصوصا في مانيفستو: "الإعلان الإسلامي"- على الواقع
المركَّب؛ وإنما خُصِّصَت كل صفحة في هذه السيرة -كما يُقرر الدكتور أنس كاريتش
صادقا- لمصير
البوسنة المركَّب الذي ارتبط بمصير علي نفسه. فهي سيرة تضافرت فيها
صناعة دولة حديثة، وصياغة شعبٍ عضوي وبناء وعيه بذاته، مع بلوغ "المفكر/
البنَّاء" أوج نسقه في ممارسته السياسيَّة، التي تغيَّا من ورائها تحقيق
مُثُله. وربما كان هذا التضافُر هو ما شجَّعنا على اختيار عنوان: "سيرة
ذاتيَّّة"؛ فهي سيرة صاحبها بقدر ما هي سيرة صناعته للحدث، أو هي سيرته
في صناعة الحدث، أو سيرة البوسنة التي حَلُم بها عزَّتبيغوڤيتش، وصنعها على عينه
رغم العوائق التي جعلت من حلمه شيئا أشبه بالكابوس.
هي سيرة صاحبها بقدر ما هي سيرة صناعته للحدث، أو هي سيرته في صناعة الحدث، أو سيرة البوسنة التي حَلُم بها عزَّتبيغوڤيتش، وصنعها على عينه رغم العوائق التي جعلت من حلمه شيئا أشبه بالكابوس
هذه الصلة العضويَّة
-التي لا تنفصم- بين تاريخ البوسنة المأزومة وصانعها الأهم، جعلت بطلة مذكراته
الوحيدة هي البوسنة؛ فكأنه راوٍ عليم يقُصُّ علينا سيرة البطلة المحبوبة، التي
يُقاتل بشراسة -وبكل سلاحٍ- لاستنقاذها بعد إذ أُخرجت من دارها واستُبيحت؛ فكأنها
سيرة "إخراجها" وسيرة مساعي "إعادتها". ولا غرو بعد ذلك في أن
يبدأ السيرة أو المذكرات تعريفا بنفسه، ثم يسكت بعدها عن التأريخ لشخصه، مُكتفيا
بالتأريخ لجهاده في سبيل محبوبته التي تصورها؛ في تضافُرٍ مصيري يبلغ أحيانا مرتبة
الحلول. وكأن هذه السيدة الحسناء التي يدفع عنها العدوان؛ هي امرأته -حقيقة لا
مجازا- التي اتحد وجودها بوجوده.
هذا الحلول الذي
يُطِلُّ برأسه في مواطن شتَّى، يدعمه خطابه الطوباوي عن البوسنة بوصفها
"
فكرة"، أو "مبدأ نبيلا" للتعايُش السلمي والتجاور بين الشعوب
والأديان والقوميات، في مجتمع علماني مفتوح. وهي صيغة حلوليَّة أخرى مُستحيلة،
مصدرها الفلسفات المثاليَّة التي تركت دمغتها في تكوينه، وتجسَّدت في توقُّعه
لاتساق الغرب القيمي في الممارسة السياسيَّة مع ما تنضح به أنساق نظره الفلسفي.
فكانت صدمته الأهم لا في عدم واقعيَّة هذه الفلسفات، أو في المسافة التي تفصلها عن
الواقع؛ وإنما في الهوة التي تفصل بين الممارسة السياسية لهذا الغرب، والمنظومة
القيميَّة التي يدَّعيها في فلسفاته الهيومانيَّة. وقد كاد الساسة الغربيون
يتَّهمون بطلنا بالجنون -في غير موطنٍ- بسبب سيطرة هذه "الأوهام
الغريبة" على تصوراته!
وهو عين ما دفعه دفعا
إلى استحضار شيءٍ من "الذات القوميَّة" البوشناقيَّة، في إطار تصوره
لـ"الفكرة" البوسنويَّة الجامعة، رغبة في أن يصير هذا "المكون
القومي" عُنصرا من عناصر الواقع التعدُّدي الذي يحلم به؛ عنصرا يكافئ
التصورات الأوروپيَّة النظريَّة في هذا الباب!
ورغم أن الواقع كان
يلفظ هذا الحلم -نظريّا وعمليّا- في كل مرحلة تقع فيها المواجهة بينهما، فقد ظلَّ
مُتشبثا بحُلم التعدُّدية في إخلاص عجيب، رغم يقينه بالتقلُّص التدريجي المتسارِع
لاحتمالات تحقُّقه، خصوصا بعد اتفاق دايتون. وهذا ما يجعله يتجلَّى لنا طوال
"السيرة" بوصفه بطلا تراجيديّا (دون كيخوته؟!)، مُضطرا للتترُّس بقيمه
الأخلاقيَّة في الدفاع عن امرأته، تترُّسا مُطردا أثخنه بسبب هشاشة ترسه في مواجهة
خسَّة الخصوم، الذين لا يتحلون بأيَّة أخلاق على الإطلاق. إذ لم يكُن فيلسوفنا
يُقدِم على كل ما تسنح له فرصة ارتكابه -مثل غيره من السياسيين المحدَثين- ما دامت
قيمه الأخلاقيَّة الثابتة تأبى الفعل، حتى إن ثبتت فعاليته ونفعه، وأنه سييسر عليه
مهمة الإنقاذ التي افترضها على نفسه. أما إن اضطُرَّ؛ فإنه لا يجترح الفعل بغير
تأثُّم ويأخذ من الضرورة بقدرها، ثم يُمسك بعدها دون إفراط في الترخُّص بدعوى
الاضطرار.
ولهذا، صُنِّفَ -في
حياته وبعد مماته!- بوصفه سياسيّا فاشلا في ميزان من يقيسون الأفعال بنتائجها! إذ
لم يجرؤ على اجتراح شيءٍ مما ارتكبه غيره في سبيل غايته، واعيا بأن الحسرة والندم
على ما يجترحه الإنسان، دائما ما تكون أقسى وأشد وطأة على النفس مما خلفه وراءه،
دون أن تمتد إليه عينه. وكما كانت هذه السيرة -في جوهرها- محاولة عمليَّة للإجابة
على سؤال علاقة السياسة بالأخلاق في السياق الغربي، الذي ظلَّ يُكبره ويُعجب بقوته
إلى آخر لحظة كما سيتجلَّى للقارئ؛ فهي توثيق كذلك لرحلته الشاقَّة في سبيل الحفاظ
على سلامه الجواني -بالاتساق القيمي- إبَّان أيامه الأرضيَّة القليلة، ما دام
السلام البراني قد صار في حكم المحال.
كما كانت هذه السيرة -في جوهرها- محاولة عمليَّة للإجابة على سؤال علاقة السياسة بالأخلاق في السياق الغربي، الذي ظلَّ يُكبره ويُعجب بقوته إلى آخر لحظة كما سيتجلَّى للقارئ؛ فهي توثيق كذلك لرحلته الشاقَّة في سبيل الحفاظ على سلامه الجواني -بالاتساق القيمي- إبَّان أيامه الأرضيَّة القليلة، ما دام السلام البراني قد صار في حكم المحال
إن
هذه السيرة تكشف لنا عن فلسفة سياسيَّة عجيبة في تزمُّتها الأخلاقي، وفي قدر الصبر
الذي أُشرِبَت به، وفي التزامها المطرد الأخذ بعامل الزمن في الحسبان، وفي
التجلُّد الواضح لصاحبها في المُلِمَّات، وفيما يُسميه وزيره الأسبق كاريتش:
"استهانة فعَّالة" بما يلقاه في سبيل الغاية. فكأنها فلسفة سياسية
"ما قبل حداثيَّة" لمفكر وفيلسوف وسياسي حداثي. وربما كان هذا أحد مكامن
فرادتها، التي لا تُفصح عنها لكل أحد.
إن
هذه سيرة لا هي بالذاتيَّة، ولا بالموضوعيَّة؛ فهي سيرة رجل دولة حقيقي في تكوينه
لتلك الدولة من العدم بعد أن انقضى زمن بُناة الدول. وهي تفصيل لملامح الأثر الذي
خلفته تلك الرحلة المُضنية على نفسه وأهله ومصيره. ولا أحسب أن العلَّامة محمد إقبال (المتوفى 1938م) إن قُدِّر له
الحياة حتى تأسيس الدولة التي "حَلُم" بها (في 1948م)، ثم قُدِّر له
كتابة "مذكرات" أو "يوميات سياسيَّة"؛ إلا غارقا مثل صاحبنا
الفذ هذا في تدوين وقائع مُصيبة تقسيم شبه القارة الهنديَّة، ومآسيها المريعة؛
مازجا بالمثل بين تفاصيل حياته الشخصيَّة، ونضاله في سبيل تأسيس الدولة؛ التي
ترعرعت في قلبه أولا. وهي ليست مساحة التقاطُع الشخصيَّة الوحيدة بين
عزَّتبيغوڤيتش ومُلهمه الأعظم إقبال، بوصفهما من أبرز أبناء الحداثة،
و"ضحايا" وحشيَّة القرن العشرين.
وأيّا كان موقفنا من
هذه الرحلة وصاحبها، ورأينا في جهاده الناضح بالصدق؛ فستتجلَّى لنا في غمارها هيمنة
الرؤية الكونيَّة للإسلام، وذلك بوصفها طريقا ثالثا بين طريقي الشرق والغرب؛ طريقٌ
ينضح فيه تأويله الحداثي للإسلام بجمعه "التلفيقي" بين التقاليد
المتضادة.
ليظل هذا المجاهد وفكره حلقة محورية في تاريخنا، حلقة
مُلهمة وجديرة بالدرس والتأمُّل؛ خصوصا وهو المفكر المسلم الوحيد، الذي تمخَّض عنه
الإطار التحديثي إبَّان القرن العشرين؛ الذي حمل فكره معه إلى أريكة السلطة، وسعى
لتنزيله في الواقع، والاطراد معه. ففي مدرسته سنتعلَّم الصدق مع الله، والصدق مع
النفس، وحُسن الاستقامة على القيم، والاطراد معها. سنتعلَّم من الأخطاء والمزالق،
كما سنتعلَّم من الفتوحات والانتصارات الفكريَّة والحركيَّة. وإن أعظم حكمة يمكن
أن نفيدها من دراسة أي مفكر مسلم، أفضى إلى ما قدَّم ونحن نحسب فيه الإخلاص؛ هي
أنه لولا خطؤه لما عُلِّمنا نحنُ الصواب بحول الله تعالى. وإن الكمال البشري لا
يكمُن في الفرد المفكر ونسقه الفذ، وإنما فيما يفيدُ به أمته، إما باحتذاء خطواته
أو تفادي سقطاته؛ لتتكامل مسيرتها بجهود أبنائها ومساعيهم مجتمعة.
فاللهم لا تحرمنا
أجره، ولا تفتنَّا بعده، واغفر اللهم لنا وله، واكتب لأعمالنا القبول.
x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry