قضايا وآراء

الخنفشاريون في عصر السوشيال ميديا

مصطفى خضري
- Pixabay/ Omar Nasif
- Pixabay/ Omar Nasif
شارك الخبر
في عصر التدفق الرقمي الهائل، حيث صارت منصات التواصل الاجتماعي ساحاتٍ عامة مفتوحة للجميع، شهدنا ظاهرة لافتة ومربكة في آنٍ واحد: ادعاء العمق الفكري؛ إنها موجةٌ من المدوّنين والمؤثرين على فيسبوك وغيرها من المنابر، الذين يحاولون جاهدين صناعة بروباغندا وهمية حول ذواتهم، متظاهرين بامتلاكهم بصيرة نادرة ووعيا متجاوزا. ولكن، بمجرد فحص هذا الادعاء عن كثب، نجد أن جوهره لا يتعدى كونه غطاء لامعا يُخفي وراءه هرتلة وفراغا منهجيا وفكريا.

أدوات العمق المصطنع

الركيزة الأساسية لهذه البروباغندا الفكرية هي الخنفشارية بثوبها العصري. والخنفشارية، في جوهرها، هي فن استخدام البلاغة المصطنعة، والمغالطات اللفظية، والأحاديث الملفقة والمختلقة، لإيهام المستمع أو القارئ بوجاهة الحجة وقوتها، دون أن يكون هناك أساسٌ منطقيٌّ أو معرفيٌّ حقيقيٌّ يدعمها.

وقد ظهر المصطلح في زمنٍ قديم، حين اشتهر أحد الأشخاص بادعائه معرفةَ كلِّ شيء، والكلامَ في كل أمرٍ وقضية. وبرغم أنه كان يهرف بما لا يعرف، فإن العوام صدّقوه؛ فدسّ عليه بعض العلماء من يسأله عن الخنفشار (وهي كلمةٌ اخترعوها ليُظهروا كذبه وادعاءه)، فطفق يصف الخنفشار وهيئتَه وشكلَه ومنبتَه واستخداماتِه وفوائدَه.. إلخ. فلما كشف العلماء للعوام الخدعة، ازدراه الناس، وأطلقوا عليه وعلى من في شاكلته صفةَ الخنفشاريين.

وتتجلى هذه الخنفشارية الرقمية في عدة مظاهر:

1- استعراض الأسماء الرنانة: يحرص بعض هؤلاء المدّعين على تذييل منشوراتهم بعبارات مثل: "قال نيتشه.."، و"يشير هيجل إلى.."، و"صرّح ماركس بأن.."؛ هذا الاستعراض ليس نابعا من فهمٍ منهجيٍّ لمدارس هؤلاء الفلاسفة، بل هو مجرد أداةٍ لإضفاء هالةٍ من الثقافة الأكاديمية على خطابٍ قد يكون سطحيا أو حتى متناقضا. إنهم يستخدمون عمالقة الفكر كأختامٍ للموافقة، لا كمنطلقاتٍ للنقاش، ونلاحظ أنهم غالبا ما يستخدمون أسماء أجنبية تاريخية، اعتمادا على ندرة من قرأ لهم، وصعوبة تأكد العامي من صحة ما يُكتب.

2- تعقيد المصطلحات: يميل بعضهم إلى استخدام لغةٍ نخبويةٍ ومصطلحاتٍ فلسفيةٍ ونظريةٍ معقدةٍ في غير موضعها، أو بصورةٍ مبهمةٍ ومتضاربة. والهدف ليس التوضيح، بل الإيهام بأن النص يحمل من العمق ما يفوق قدرة القارئ العادي على الاستيعاب، وبالتالي يُلزمه بالخضوع لهذا العمق المفترض. إنهم يحاولون دائما صناعةَ فارقٍ ثقافيٍّ وهميٍّ يشعر القارئ غير الواعي بجهله ودونيته.

3- التعميم والقفز على الاستنتاجات: يفتقر خطاب الكثير منهم إلى بناءٍ حُجَجيٍّ رصين؛ فهم يقفزون من مسلَّمةٍ عشوائية، إلى مغالطةٍ لفظية، إلى نتيجةٍ كبرى، دون المرور بخطوات التحليل المنطقي أو تقديم الأدلة المنهجية اللازمة، معتمدين على جهل العوام بمنهجية البحث العلمي وأدواته.

الفراغ الداخلي والمنهجية المفقودة

إن المشكلة الحقيقية تكمن فيما وراء هذا الأداء الخنفشاري؛ فالكثير من هؤلاء المدّعين فارغون نفسيا، ومجرّدون من المقومات الفكرية الحقيقية. وأهم صفاتهم، التي تظهر لأصغر مثقفٍ حقيقي، هي:

1- غياب المهارات العقلية: لا يمتلك معظمهم المهارات الأساسية للتفكير النقدي؛ فلا يستطيعون التمييز بين السبب والنتيجة، ولا بين الافتراض والحقيقة، ولا يجيدون التحليل المنظم لنصٍّ أو ظاهرة.

2- فقدان الثقافة المنهجية: الفكر الحقيقي بناءٌ معماريٌّ يُشيَّد خطوة خطوة، عبر القراءة المنهجية، واستيعاب السياقات التاريخية للفلسفات والعلوم، والمحاكمة العقلية الصارمة. أما هؤلاء الخنفشاريون، فمعظمهم يكتفون بقشور المعرفة والمقتطفات السريعة، التي لا تُغني عن الإلمام بالمنظومة الفكرية الكاملة.

3- أدعياء المعرفة: إنهم يقلدون سلوك أدعياء المعرفة الذين ظهروا في كل عصر، من الخنفشاريين القدامى الذين باعوا الوهم بالبلاغة، إلى متصنعي العلم في عصور التراجع. فبعضهم يسعى إلى مكانةٍ اجتماعيةٍ وشخصيةٍ مبنيةٍ على الوهم، لا على إنجازٍ حقيقي في الإنتاج الفكري. ولذلك نكون أمام سؤالٍ منطقي: هل الخنفشاريون صانعو حدثٍ أم مفعولٌ بهم؟

هنا يكتسب الموضوع بُعدا أخطر، يتجاوز حدود الشهرة الشخصية ليلامس المصالح الوطنية والجيوسياسية. ففي ظل الحروب الهجينة والتنافس الدولي على التأثير، لم تعد الخنفشارية مجرد عَرَضٍ فكريٍّ فردي، بل يمكن أن تتحول إلى أداةٍ ناعمةٍ وفعالةٍ في يد أجنداتٍ خارجية.

يتم توظيف الكثير من هؤلاء الخنفشاريين لخلق وتمرير رواياتٍ محددةٍ تخدم مراكزَ قوى معينة، من خلال:

1- تفكيك الوعي الجمعي: وذلك عبر نشر تحليلاتٍ تبدو عميقة ظاهريا، لكنها في الحقيقة تهدف إلى زرع الشك المنهجي في المعتقدات الصحيحة أو ثوابت المجتمع، مثل تلك الحملات التي يشنها بعض الخنفشاريين الجدد، وبصورةٍ متزامنة مما يشير إلى احتمالية وجود أجنداتٍ خارجية، على بعض الصحابة رضي الله عنهم، للتشكيك في التراث الإسلامي الموثق، تمهيدا لمرحلةٍ لاحقةٍ يُشكَّك فيها في الإسلام نفسه، وهو ما يُضعف الجبهة الداخلية ويسهّل اختراقها إيديولوجيا أو سياسيا.

2- تشويش الأولويات: يُستخدم التعقيد السفسطائي لصرف الرأي العام عن القضايا الجوهرية والاحتياجات الحقيقية للمجتمع، وإغراقه في نقاشاتٍ هامشية أو مفاهيمَ مستوردةٍ لا تتناسب مع سياقه العام، مثل شغل الناس بصراعاتٍ وأفكارٍ نسويةٍ راديكالية لا تناسب المجتمعات المسلمة (الإسلام أعطى المرأة حقوقا سابقة لعصرها، ولا حاجة لاستيراد مفاهيم تتناقض مع فطرتها ودينها) على حساب قضايا المرأة والأسرة الحقيقية، كالتعليم والتربية الصحيحة للأبناء، مما يعرقل اتخاذ القرارات السليمة.

3- خلق مصفوفة وهمية: يتم تضخيم بعض الشخصيات الخنفشارية المدعومة بوصفها أصواتا عقلانية أو قياداتٍ فكرية، لترويج خطابٍ محدد، غالبا ما يكون متطرفا أو هدّاما، تحت ستار العمق الفلسفي. ثم يُدعم بعضهم في مرحلةٍ لاحقة للصعود في السلم السياسي، وبذلك يوضع محدودو المعرفة في مواقع صنع القرار، وهو ما يصنع كوارثَ سياسية مستقبلا.

هؤلاء المدّعون، بوعيٍ أو بغير وعي، يصبح بعضهم قنواتٍ لتسريب خطابٍ موجَّه؛ إذ إن افتقارهم إلى المنطق المنهجي يجعلهم فريسة سهلة للاستغلال، حيث يمكن تزويدهم بسهولة بمقتطفاتٍ مُعدّةٍ مسبقا، ومغلّفةٍ بمصطلحاتٍ براقة، لتحقيق أهدافٍ جيوسياسيةٍ محددة، تحت ستار التحليل المستنير.

لحظة الانكشاف الحتمي للخنفشاريين

كل بروباغندا وهمية مصيرها الزوال، لا سيما عندما تصطدم بجدار الحقيقة. وتأتي لحظة انكشاف عيوب هذا المدّعي حين يُجبَر على خوض حوارٍ عقليٍّ حقيقي أو مناظرةٍ جادة.

في الحوار الحقيقي، لا تكفي العبارات الرنانة ولا الأسماء الكبيرة؛ إذ يُطلب من المفكر الحقيقي:

1. تحديد المفاهيم: ما الذي تعنيه مصطلحاتك تحديدا؟

2. تقديم الأدلة: ما المرجعيات المنهجية أو التجريبية التي تدعم رأيك؟

3. الاستجابة للنقد: كيف ترد على الانتقادات الموجهة إلى افتراضاتك؟

في هذا الاختبار، يفشل مدّعو العمق فشلا ذريعا؛ فبمجرد الضغط على نقاط ضعفهم المنهجية، يتهاوى بناؤهم الخنفشاري، ويتحولون إما إلى هجومٍ شخصي، أو إلى تكرارٍ لعباراتٍ مبهمة، أو إلى انسحابٍ سريع من الساحة. ذلك لأن الخنفشارية قد تصنع أتباعا، لكنها لن تصنع مفكرين.

إن الفكر الحقيقي ثقيل، يتطلب عملا دؤوبا في القراءة والكتابة والتدريب العقلي، وهو عمليةُ بناءٍ ذاتيٍّ لا يمكن اختصارها في اقتباسٍ مصطنع أو عنوانٍ مثير. وعلى المتلقي أن يكون واعيا؛ فالمفكر الحقيقي لا يحتاج إلى بروباغندا لإثبات وجوده، بل إن عمقه يتحدث عن نفسه في وضوح أفكاره، وأصالة تحليلاته، وقدرته على الصمود أمام النقد المنهجي. وبلادُنا مليئةٌ بمثقفين حقيقيين ومفكرين لديهم من العلم والرزانة ما يجعلهم في مصاف مفكري العالم، لكن محركات البحث واقتصاد الصورة الذي يتحكم في منصات التواصل الاجتماعي، لا يتركان لهم مجالا كافيا للصعود والانتشار؛ إذ إن الخنفشاريين هم أدوات الربح في تلك المنصات التي تستخدم "الترند" مولدا ماليا لا ينضب.

دعونا نرفع معيار التفكير ونطالب بالأصالة؛ فالخنفشارية ليست إلا زبدا يذهب جفاء، بينما الفكر الرصين هو ما يبقى ليصنع الحضارات.
التعليقات (0)

خبر عاجل