قضايا وآراء

أجيال التمكين المأزومة

عبد الرحمن أبو ذكري
"أقدار الله تعالى لا تجري بأهواء خلقه، بل إن حُسن الظن بالله كله تسليم الأمر له ولحكمه"- CC0
"أقدار الله تعالى لا تجري بأهواء خلقه، بل إن حُسن الظن بالله كله تسليم الأمر له ولحكمه"- CC0
"بينما ترمي الدساتير الحديثة والقوانين الوضعية إلى أن تجعل قاعدتها الرئيسة -في وضع الأحكام- فكرة الحقيَّة، أو الامتلاك؛ نرى الشريعة الإسلامية.. ولا سيما وهي بصدد وضع أحكامٍ لتنظيم نشاط الإنسان السياسي، أو تحديد صلة الفرد بالمجتمع؛ تَهدِفُ إلى أن تجعل قاعدتها الأولى فكرة الوجوبية والالتزام، أكثر مما تجعل فكرة الحقيَّة والاستحواذ. فالإنسان في عُرف الشرع لا يُنظَر إليه -أولا- على أنه صاحبُ حقٍّ، ولكن يُنظر إليه على أنه متحمِّلٌ مسئولية، أو مُلزمٌ بأداء واجبٍ أو طائفة من الواجبات. ولذا، فإن الكلمة التي تُطلق عليه، باعتباره فردا ذا صفة سياسية، أي عضوا في مجتمعٍ، وهي المقابلة لكلمة مواطن (citizen) التي تعارفنا عليها في العصر الحديث -وأصل معناها المنتَسِب إلى المدينة- هي عند علماء الشريعة الإسلامية كلمة: مكلَّف؛ فكل فرد بالغٍ عاقلٍ، من ذكرٍ أو أنثى، كل عضوٍ في المجتمع السياسي، بدون أدنى تفرقة من حيث النظر إلى المكانة أو الطبقة أو النسب، حتى الأنبياء، والحكام أيضا مُتساوون في هذا مع الرعية، هو مكلَّفٌ؛ أي مسئولٌ، والدولة -أو المجتمع الذي نُسميه بهذا الاسم- ما هي إلا مجموعةٌ من المكلَّفين.

ومن أجل هذا، فإن الذي يتفق مع روح الشريعة أن يُتكلَّم في الإسلام عن واجبات الإنسان أكثر مما يُتكلَّم عن حقوقه؛ إذ إن أساس النظر هو أن مالك الحقوق جميعا هو الله سبحانه وتعالى، وهو الخالق وواهب الحياة للإنسان والمخصص له صفاته، والمنعم عليه بكل النعم التي يتمتَّع بها، وملكيتها تبقى حقّا خالصا لله تعالى الذي أوجدها وأعطاها، وإنما الإنسان مُلَزمٌ ومكلفٌ بالمحافظة على هذه النعم وصيانتها والانتفاع بها في الحدود التي رُسمت لها، واستعمالها فيما خُلقت من أجله، والانتفاع الرشيد بهذه المواهب.. إن هذه الحقوق جميعا هي حقوق الله، وعلى الإنسان دائما أن يستشعر أنه مؤتمنٌ أو وكيلٌ على حيازة هذه الحقوق، عليه أن يتصرَّف فيها تصرُّف الوكيل، في الحدود التي عُينت لوكالته".

الإسلام "وسطٌ" ما بين الرؤيتين، إذ يُرسخ خلاصا فرديّا في إطار خلاص اجتماعي، مع فتح الأفق لإمكان تنزُّل "مِنَّة" إلهيَّة بتمكين للدين على يد بعض دُعاته المجاهدين، كما أسلفنا. ولهذا، فالمكلَّف مسؤول يسعى للخلاص في الدنيا وفي الآخرة، أما صاحب الحقوق الطوباوية فمتألّه لا يرى نفسه إلا مركزا للكون؛ يسعى لبناء فردوس أرضي ليتحصَّل فيه على "حقوقه" المادية اللانهائيَّة

وهذا التقرير الماتع الدقيق، الذي أورده العلَّامة الشيخ محمد عبد الله دراز -رحمه الله- في كتابه الأشهر: "الدِّين"؛ هو خير مُنطلقٍ يكشف تبايُن الرؤية بين الإسلام وما عداه، وبين تصور "الخلاص الديني" في روع المكلَّف المكابِد، وتصور "التمكين الطوباوي" المستورَد من السياق البروتستنتي. وإذا كانت الرؤية الكاثوليكيَّة -ومثلها النحل والأديان الشرقيَّة الآسيويَّة- تُرسخ تصورا للخلاص الفردي المجرَّد، وتُخالفها اليهودية والبروتستنتية بانتظارها لـ"تمكين" جمعي أو فردي حتمي؛ فإن الإسلام "وسطٌ" ما بين الرؤيتين، إذ يُرسخ خلاصا فرديّا في إطار خلاص اجتماعي، مع فتح الأفق لإمكان تنزُّل "مِنَّة" إلهيَّة بتمكين للدين على يد بعض دُعاته المجاهدين، كما أسلفنا. ولهذا، فالمكلَّف مسؤول يسعى للخلاص في الدنيا وفي الآخرة، أما صاحب الحقوق الطوباوية فمتألّه لا يرى نفسه إلا مركزا للكون؛ يسعى لبناء فردوس أرضي ليتحصَّل فيه على "حقوقه" المادية اللانهائيَّة.

وكما بيَّنا في مقالنا السابق، فإن إحلال وهم "التمكين" هذا محل تصور الخلاص قد أفضى إلى زُهد أجيال التمكين الهش في "الخلاص الديني"، ونفورهم منه، بل رفضهم التفكُّر فيه ودع عنك التعاطي معه بوصفه غاية الوجود الوحيدة. ذلك أن تحقُّق الخلاص الديني مُرتبطٌ بمكابدة وألم ومُعاناة في أفق دنيوي مفتوح، بغير مآل مُعيَّن في هذه الدار؛ بعكس وهم "التمكين" بوصفه ثمرة جهد وألم يُتوقَّع نيلها في أفقٍ منظور. أضِف إلى ذلك أن شتَّى الخبرات الحياتيَّة التي تُثري الشخصيَّة الإنسانيَّة، وتزيد معرفتها بالذات وبالآخر وبالوجود؛ تُعَدُّ في التصور الخلاصي قسما أساسيّا من رحلة الخلاص لأنها مرحلة اكتشاف المكلَّف لذاته ووجوده، بينما هي في التصور التمكيني مجرد ثمن واجب لـ"النجاح" في داخل الدنيا. واختلاف المنظور والنيَّة، يُفضي إلى اختلافات هائلة في استقبال الخبرات والتعاطي معها، وفي انعكاس أثرها على النفس والوجود.

وهذا المروق "التمكيني" مُطرد مع منطق الفردوس الأرضي، والذي يرفض أية تضحيات أو مكابدات لا يُدرك البصر ثمنها في أفق منظور. ومن ثم؛ فإن "تمكين الدين" لا يهم إلا بتمكين المتدينين من الدنيا! وهذا الاطراد كاشفٌ كذلك عن هشاشة تجعل صاحبها لا ينفر من الابتلاء فقط -وكل الحياة ابتلاء!- وإنما يتجنَّب مُجرَّد التفكُّر في ابتلاءات الآخرين ومآسيهم، وينصرف عن مد يد العون إليهم شفقة ورحمة. ليكون مآل هذه التركيبة الشخصيَّة هو البحث الهلوع الدائم عن اللذائذ الآنيَّة والمتع الوقتيَّة، التي يُحاول أن يُضفي بها المعنى على وجود مشهود، لا يؤمن على الحقيقة بشيء وراءه. ويُحاول إطالة أمد تلك المتع واللذائذ إلى ما لا نهاية، وهذا مستحيل عمليّا؛ لأن المتعة واللذة قد ارتبطت في دار الابتلاء بالمعاناة التي تتلوها وتسبقها، فكل لذَّة مُختَلَسة. وربما كان فعل "الولادة" الذي يُلقَى به ابن آدم في الدنيا مثالا نماذجيّا تأسيسيّا على تجاور اللذة والألم، ولزوم اقترانهما في الدنيا؛ فكأن الفعل الذي تبدأ به الحياة تجسيدٌ لأطوار الحياة نفسها. وهذا هو ما يجعل تحول نظر البشري من الخلاص إلى التمكين، ليس مجرد انحدار من الإيمان إلى الكفر؛ بل هو تدهورٌ أولا من الإنسانية إلى ما دون الحيوانية.

ولهذا، نجد أن أجيال التمكين التي غذَّتها أوهام "التنمية البشرية" وأخواتها، ومقولات تافهة مثل: "أنت تستحق الأفضل"، و"توقَّع الأجمل دوما"، و"دع ما يؤذيك".. إلخ؛ قد صارت أسيرة أوهام نسجتها أمثال تلك الخرافات، والتي تُشكِّل لاهوتا دينيّا حقيقيّا تَشكَّل في بيئة بروتستنتية ترعى الدين المدني؛ لترفع سقف توقُّعات الأجيال الجديدة، وتجعلها تنتظر حياة يسيرة لا عقبات فيها، أو على الأقل حياة يُثابُ فيها كل فاعلٍ في هذه الدنيا بعد تغييب الدار الآخرة. وهو ما يخلف أجيالا شديدة الهشاشة، مُعلَّقة بـ"التمكين" الدنيوي الآني ولا تُبالي بالخلاص بوصفه الغاية الحقيقيَّة في هذه الدنيا. وهذا الوهم شديد الاختلاف عن حُسن الظن بالله، الذي أُمر المؤمنون بالتحلي به. فإن الله تعالى لا يبتلي العبد ويقبض عنه نعمة، ليُعطيه خيرا منها في هذه الدنيا بالضرورة، وإشاعة ذلك كذب على الله، وإلزامه سبحانه وتعالى بما لم يُلزِم به نفسه. فإن ابتلاء المكلَّف -بالخير قبل الشر- لا يُشترط أن يكون امتحانا يُجازى عليه بنعمة في هذه الدنيا، بل قد يكون عقابا لذنوبٍ اجترحها ونسيها، وقد يكون غير ذلك مما لا يعلم حكمته إلا ربنا سبحانه وتعالى. ومن الأدب ألا نتبع الهوى؛ فنلزم حد العبوديَّة، ونعلم أن أقدار الله تعالى لا تجري بأهواء خلقه، بل إن حُسن الظن بالله كله تسليم الأمر له ولحكمه.

النظر إلى بقايا التمكين الماضي بوصفها هي نفسها أصول الديانة وتحقُّقها في الوجود؛ محض توهُّم كسول، يُريد العودة إلى ذروة توفيقيَّة قصيرة، دون المرور بعقود الجهاد والمكابدة وآلامها، ورأس ذلك مكابدة النفس لئلا تنجرف بسرعة إلى خيالات هذا "الماضي الذهبي" الذي تدهورت فيه خصائص المكلَّف

ولا يخلو هذا الانحراف من بقايا فطريَّة، إذ يتوهُّم بعضهم في التمكين خلاصا، بالأشياء وبالأدوات؛ في حين يؤدي بهم إلى سجن حقيقي في فردوس أرضي موهوم، يقود حتما إلى جحيم دنيوي حقيقي على المدى الطويل، خصوصا إذا رافقه مسعى لفرضه قهرا على الواقع. وإن الخلاص ليس رغبة في التمكين، وإن لم ينف فطريَّة الطمع في الأخير. لكنَّ نُشدان الخلاص تعلُّق كاملٌ بالغيب، وبخلاصٍ حقيقي للنفس والمجتمع، وقد يؤدي في الإسلام إلى تمكين ما؛ يسمح بتيسير تخليص نفوس ومجتمعات أخرى.

إن مرحلة هيمنة الأفق المحدود للتمكين مرحلة مدمِّرة للتصورات الإسلامية في الوجدان وفي الواقع، إذ يصحبها عدد هائل من الأوهام، مثل الحلم بلحظات "المجد الحضاري الذهبي" و"الأيام الخوالي"؛ التي كانت في الأصل آخر صور التمكين للدين، بعد انحراف المتدينين وانصرافهم إلى الدنيا. وبعبارة أخرى، فإن النظر إلى بقايا التمكين الماضي بوصفها هي نفسها أصول الديانة وتحقُّقها في الوجود؛ محض توهُّم كسول، يُريد العودة إلى ذروة توفيقيَّة قصيرة، دون المرور بعقود الجهاد والمكابدة وآلامها، ورأس ذلك مكابدة النفس لئلا تنجرف بسرعة إلى خيالات هذا "الماضي الذهبي" الذي تدهورت فيه خصائص المكلَّف.

ورغم ذلك، فإن هذه المرحلة تُعيد الأمة مرة أخرى -بإذن الله- إلى أفق أوسع. إذ تُعَدُّ هذه المرحلة آخر المؤثرات الغربية/ الجاهلية/ الماديَّة في أي دورة تاريخيَّة، وبالتالي؛ فهي خاتمة الدورة التاريخية الحالية. ولعلَّ أهم شواهد ذلك هو ما نعيشه من استعادة للبُعد الروحي/ الصوفي للإسلام، ودلالاتها على محاولات الخروج من ضيق أفق التمكين الآني بالأشياء والأدوات -وتصورات أهل الشرك وأنظمتهم- إلى سعة آفاق الخلاص بالتوحيد، وانفتاح الآفاق على كافة الاحتمالات، ومنها انعدام التمكين. فإن "التمكين التوفيقي" ليس مُعلقا بعجلة جيل ولا مهاراته وإمكاناته، وإنما بما يقع من هذا الجيل تحت نظر الله تعالى، والذي لا ينظر إلا إلى القلوب التي يأذن بتمكينها من حمل هذا الدين المرتضى إلى قيام الساعة.

x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry
التعليقات (0)

خبر عاجل