قضايا وآراء

في الحاجة إلى جبهة مقاومة فلسطينية موحدة

عصام السعدي
"لا بد من التفكير، ولا بد من المبادرة، ولا بد من تكسير جدران الانتظار والعجز والاستسلام للواقع"- الأناضول
"لا بد من التفكير، ولا بد من المبادرة، ولا بد من تكسير جدران الانتظار والعجز والاستسلام للواقع"- الأناضول
لم تعد الوقائع المتسارعة في فلسطين تتيح ترف الانتظار، فنحن نعيش لحظة فارقة في ظل عدوان شرس وغير مسبوق على غزة، يتمثل في حرب إبادة وتجويع وحصار وتهجير، مترافق مع تصاعد وتيرة القتل والتنكيل والاستيطان في الضفة، وغياب مشروع وطني فلسطيني موحّد، يهدد قضيتنا بالتلاشي تحت وطأة نظام رسمي فلسطيني (السلطة الفلسطينية) منفصل عن واقع شعبه، ومرتبط بالاحتلال، وغارق في الفساد، وتنهشه شيخوخة المؤسسات وترهلها، بعد أن أُفرغت منظمة التحرير الفلسطينية من مضمونها، وأُلحقت بالسلطة، حتى باتت مجرد دائرة تابعة لا حول لها ولا قوة.

في واقع مؤلم كهذا، تتولد حاجة موضوعية وملحّة لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، كقضية تحرر وطني تواجه استعمارا استيطانيا لم يتراجع يوما عن حلمه بإلغاء فلسطين والفلسطينيين من التاريخ والجغرافيا.

في واقع مؤلم كهذا، تتولد حاجة موضوعية وملحّة لإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني، كقضية تحرر وطني تواجه استعمارا استيطانيا لم يتراجع يوما عن حلمه بإلغاء فلسطين والفلسطينيين من التاريخ والجغرافيا

إن ما يجري في الميدان، من صمود بطولي، ومقاومة أسطورية حيّرت العالم بثباتها وصمودها وجرأتها، وبصبرها على تقديم تضحيات جسيمة، يفرض علينا إعادة التفكير الجذري في صيغ العمل الوطني، بعد أن أثبتت العقود الثلاثة الماضية أن نهج التفاوض والتنازلات والتكيّف مع المشاريع المطروحة من جهات عربية ودولية، في ظل اختلال ميزان القوى، لم يُنتج إلا الانقسام السياسي والجغرافي، والتفريط بالأرض والحقوق، وتقديس التنسيق الأمني مع الاحتلال ضد أي عمل مقاوم مهما كان بسيطا، مما أوجد نظاما فلسطينيا إقصائيا، منغلقا على ذاته، فاقدا لأي من معاني الاستقلال، وعاجزا عن تحقيق أي منجز وطني، وآيلا إلى الانهيار بالضرورة.

من هنا، تُطرح في الساحة الفلسطينية أفكار جديدة وجدّية، ليست متبلورة بشكلها النهائي، لكنها نابعة من السياق النضالي الطويل للشعب الفلسطيني. هذه الأفكار في مجملها تُنبئ عن الحاجة إلى مبادرة تدعو إلى جبهة مقاومة فلسطينية موحدة، تضمّ الطيف الوطني المقاوم في الداخل والشتات، وتعيد الاعتبار لخيار التحرير والمقاومة، وتحمل برنامجا وطنيا جامعا لا يقوم على المحاصصة أو على الولاءات الإقليمية أو على المشاريع السياسية التي تعادي المقاومة أو تبتعد عنها.

إن الحاجة إلى جبهة مقاومة فلسطينية موحدة لم تعد ترفا سياسيا، بل أصبحت ضرورة وجودية، بعد تعطيل منظمة التحرير الفلسطينية، التي توشك أن تفقد حقها التمثيلي، وبعد أن تحوّلت السلطة الفلسطينية، في نظر الغالبية، إلى عبء سياسي وأمني، ومرتهنة لبنيتها المنبثقة عن اتفاقية أوسلو وارتباطها بالاحتلال، حتى غدت من أحط أشكال النظام الرسمي العربي.

الجبهة المنشودة لن تنتظر إصلاح منظمة التحرير من الداخل، بعد أن ثبت عدم إمكانية هذا الخيار، وهي في الوقت نفسه ليست بديلا عن المنظمة، بل قد تكون وسيلة لانتزاعها من مختطفيها، وخطوة في اتجاه إعادة تفعيلها كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني. وهي، بالضرورة، لا تقوم على شعارات عامة، بل على أسس وبرامج عملية: توسيع المقاومة بأشكالها كافة، بناء مؤسسات ديمقراطية نزيهة، إشراك الشتات في القرار، واستعادة الثقة الشعبية بالعمل الوطني الجماعي، من أجل أهداف تنبع من مبدأ التحرير والحرية.

التحديات أمام إقامة جبهة كهذه كبيرة. فالاحتلال لن يقف مكتوف اليدين أمام كيان فلسطيني موحَّد ينزع عنه الاعتراف الرسمي الفلسطيني، الذي نتج عن اتفاقية أوسلو، فهذا كيان سينزع الاعتراف عن الاحتلال، وسيشتبك معه سياسيا وعسكريا وثقافيا ودبلوماسيا على أرضية المقاومة. والنظام العربي الرسمي -في معظمه- لا يريد فلسطينيين موحَّدين يتكلمون بصوت مستقل حر. أما السلطة الفلسطينية، فمن المتوقع أنها ستناهض أي محاولة لبناء جبهة مقاومة وطنية، بعد أن حسمت موقعها واختارت أن تكون ضد المقاومة.

ومع ذلك، لا بد من التفكير، ولا بد من المبادرة، ولا بد من تكسير جدران الانتظار والعجز والاستسلام للواقع.

إن مبادرة كهذه قد تبدأ بلقاء بين قوى شعبية (مؤتمرات، جمعيات، ملتقيات، لجان شبابية، لجان نسائية..)، وفصائل تؤمن بالمقاومة، وشخصيات وطنية في غزة والضفة والشتات، لقاء يحشد الطاقات الكامنة في الجامعات، والمنظمات الشعبية، والمخيمات، والجاليات، كي يتطوّر إلى إطار واسع، من المؤمَّل أن يحظى بشرعية نضالية وشعبية، بفعل وضوح الهدف، وتعزيز الثقة بجدوى المقاومة والعمل الجماعي الجبهوي الديمقراطي.

وحدة هذا الشعب وقواه الفاعلة لا تُصنَع بالتكيّف مع الواقع، ولا بأوهام السلام، ولا بالانحناء أمام فاشية سموتريتش وبن غفير، بل تُصنع بالبناء على نهج المقاومة، وبالتمسك بالحقوق الثابتة، وبوضع كل البرامج في خدمة هدف واحد هو التحرير قبل أي شيء آخر

في الطريق إلى جبهة كهذه، فإن ما نحتاجه اليوم هو نقاش وطني صريح: كيف نعيد تنظيم صفوفنا؟ كيف نبني جبهة مقاومة فلسطينية موحدة تعيد الاعتبار لحقنا في المقاومة، ولحلمنا في العودة والتحرير؟ كيف نعطي للكلمة، وللبندقية، وللجامعة، وللمخيم، وللنقابة، صوتا واحدا في وجه الاحتلال؟ كيف نستثمر التضامن الشعبي العالمي معنا؟ كيف نصمد في وجه عدو لا يخفي رغبته في إبادتنا جميعا؟

إن الإجابة عن هذه الأسئلة سينتج عنها بالضرورة برنامج مقاومة قادر على استقطاب كل القوى والطاقات الفلسطينية في مواجهة الاحتلال.

هذه الأسئلة لا يمكن تجاهلها، إذا أردنا إعادة بناء الحركة الوطنية الفلسطينية، بل من الواجب أن تُطرح، وتُناقش بصدق، وبلا حسابات صغيرة، وبنَفَسٍ وحدوي طويل، لا بد أن تتحلى به الفصائل المقاومة، وجموع المثقفين والناشطين وأطرهم.

إن شعبا يصمد في غزة صمودا أسطوريا مُعجزا، ويواجه الاحتلال بتضحيات جسيمة في جنين وطولكرم ونابلس وطوباس، ويتمسك بمفتاح بيته في الشتات، ويغني للقدس وحيفا ويافا واللد وصفد، لا يمكن أن يُهزم، إذا التقطت قواه الحية اللحظة التاريخية، خاصة بعد أن انكشف زيف رواية الاحتلال، وبدأ أحرار العالم يصرخون: "من النهر إلى البحر.. فلسطين ستكون حرّة".

إن وحدة هذا الشعب وقواه الفاعلة لا تُصنَع بالتكيّف مع الواقع، ولا بأوهام السلام، ولا بالانحناء أمام فاشية سموتريتش وبن غفير، بل تُصنع بالبناء على نهج المقاومة، وبالتمسك بالحقوق الثابتة، وبوضع كل البرامج في خدمة هدف واحد هو التحرير قبل أي شيء آخر.

ولنتذكّر أن شعبنا في نضاله الطويل لم يُعطِ ولاءه في يوم من الأيام إلا لمن قاوموا الاحتلال وقدموا التضحيات، ابتداء من الشيخ عز الدين، وحتى أصغر شاب يقف اليوم أمام جيش الاحتلال في غزة والضفة.
التعليقات (0)

خبر عاجل