كتب

سومر والوعي الإنساني المبكر.. رحلة بين الأسطورة والفلسفة.. عرض كتاب

يتميّز الكتاب بجرأته في إعادة تأويل البدايات الحضارية من منظورٍ توحيديٍّ. فلا يتعامل مع سومر باعتبارها مرحلة أثرية فحسب. إنها مرجع روحيّ لتاريخ الوعي الإنسان.
الكتاب: من أسرار سومر، دراسة مقارنة بين رؤيتين
الكاتب: علاء السالم
الناشر: معهد الدراسات العليا العراق 2020
عدد الصفحات: 148 صفحة


كتاب "من أسرار سومر" عملٌ بحثيّ يتقصّى نشأة الحضارة السومرية ودلالاتها الدينية والمعرفية، فيربط، في فصوله الثلاثة "سومر حضارة وثقافة" و"الأصل الإلهي للدين السومري" و"الرمزية في ألواح سومر"، بين النصوص الأثرية والرؤى الدينية والأنثروبولوجية للبحث في أصول الوعي الإنساني.

ـ 1 ـ

 ينطلق الكتاب من مصادرةٍ أساسية مؤدّاها أنّ الوعي الإنساني لا يولد من فراغ. فالذات، مهما تباعدت بها الأزمنة، لا بدّ أن تتذكّر ذاتها القديمة، وأن تستعيد الأصل الذي غُيّب في تراكم التاريخ. ومن هذا المنطلق لا يُقدَّم سومر بوصفها بدايةً مطلقة وإنما يجد فيها إحياءً لما قبلها. ويعتبرها عودة إلى الجذور الأولى التي تشكّلت فيها الإرهاصات الأولى للروح الإنسانية. وعليه، فإحياء سومر، التي ظنّ العالم أنّها اندثرت تحت الثرى، هو في جوهره إحياءٌ للذات العراقية القديمة واستعادةٌ لوعيٍ يرفض أن يُمحى من الذاكرة الحضارية. فقد اكتُشفت مصادفةً، حين تبيّن للمشرفين على الحفريات أن وراء حضارات بابل وآشور سلالة أقدم، أكثر ابتكارًا وغموضًا، ثم أصبحت مفتاح فهم الإنسان المتمدّن. و"لم يكن أحد يعرف اسم سومر قبل قرنٍ ونصف، حتى كُشف الطين عن أول مدينة ناطقة بالكتابة" (ص. 13)

يتميّز الكتاب بجرأته في إعادة تأويل البدايات الحضارية من منظورٍ توحيديٍّ. فلا يتعامل مع سومر باعتبارها مرحلة أثرية فحسب. إنها مرجع روحيّ لتاريخ الوعي الإنسان. فيقدّم المؤلف طرحًا فلسفيًا يجعل الدين نواةَ الحضارة لا نقيضها. ويربط نشأة النظام والقانون والمعرفة بالوحي الإلهي، ويفكّك أوهام القراءة التطورية التي تختزل الإنسان في بيولوجيته، ليؤكّد أنّ القفزة السومرية كانت فعل وعيٍ لا فعل صدفة.
حين فُكّت رموز الخط المسماري انبعث من الطين صوتٌ لغويّ لا يشبه أيّ لغةٍ معروفة. فأعلن ميلاد الوعي بالزمن وبالذات معًا. ومن رحم هذا الاكتشاف تجلّت عبقرية السومريين الحضارية. فقد بنوا الزقّورات، وأسسوا نظم الريّ والعدالة، ودوّنوا القوانين، وأنشؤوا المدارس، ومارسوا القضاء. جعلوا من العدالة ميزانًا للكون لا لمصلحة الإنسان وحده، وجمعوا بين الهندسة والفلك والطب والشعر في مشروعٍ حضاريٍّ واحد. وكانوا واعين بضرورة التوثيق مدركين أن الكتابة سبيل لحفظ الذاكرة. فكتبوا على الطين كي تظل الكلمة بعدهم.

ومنها أمكن للباحث أن يقرأ تاريخ سومر عبر ثلاث طبقاتٍ زمنية، هي الطبقة الأسطورية، التي تقوم على تصوّرٍ كونيٍّ أولٍ صاغ به السومريون رؤيتهم للوجود، فشكّلت الأساس الرمزي الذي بُني عليه فكرهم لاحقًا، والطبقة الحضارية، التي حوّلت الرموز الأسطورية إلى نُظُمٍ ومؤسساتٍ ملموسة: القوانين، والمدارس، والمعابد، والفنون، والعدالة، والطبقة التفسيرية، التي أعاد فيها الباحث قراءة المنجز السومري بمنهجٍ علميٍّ حديث يربط الأسطورة بالتاريخ، والوحي بالأنثروبولوجيا، ليقارن بين مقولات الدين والعلم في فهم أصل الإنسان.

وينتهي إلى فرضيةٍ مفادها أنّ حضارة سومر لم تكن طفرةً مادية، خلافًا للقراءات المادّية التي تردّ القفزة السومرية إلى التطور الطبيعي أو التفاعل الثقافي، وأنها مثّلت تجلّيًا للوحي الأول الذي مهّد لولادة الإنسان العاقل باعتباره كائنًا أخلاقيًا وروحيًا. ويقدّر أنّ هذا التحوّل العظيم لا يمكن أن يتمّ دون تدخّل العنصر الإلهي في معادلة الوجود، لأنّ الدين، لا الصدفة، هو الذي أنسن المادّة، وأطلق في الإنسان طاقة الخلق والتنظيم والمعنى.

ـ 2 ـ

يمثّل الدين السومري أحد أبرز التحوّلات في الوعي الإنساني المبكّر. وبناء عليه يصادر الباحث ضرورة تجاوز حدود الشعائر والعبادات وحدها في فهمه. وقراءته بوصفه نظامًا كونيًا متكاملًا ينسّق علاقة الإنسان بالوجود ويحدّد موقعه من المطلق. فقد "آمن السومريون بأن الخلق فعل حبٍّ من إله واحد، لا صراع بين آلهة" (ص. 49). وأدركوا الكون باعتباره فعلًا من إرادةٍ واحدةٍ محبّة، لا نتيجة صراعٍ بين قوى متنازعة، ولذلك جاءت نصوصهم التأسيسية مشبعة بروح التوحيد وإن غلّفتها رموزٌ متعدّدة لتجلٍّ واحد.

بهذا التصوّر لم تتأسّس ثنائية السماء والأرض على الانفصال وإنما على التماثل الرمزي. فالسماء أصل السلطة، والأرض مرآتها المنعكسة. والإله ليس متعاليًا بمعنى البُعد. إنه ساكنٌ في الإنسان ومقيمٌ في ضميره. وبهذا، تتحوّل العبادة، وفق الباحث طبعا، إلى فعل وعيٍ داخلي، لا إلى طقسٍ خارجيٍّ فحسب. فالصلاة واجبٌ يوميٌّ، والرؤيا طريقٌ إلى المعرفة الباطنية. فـ"الصلاة عندهم طاعةٌ وخشية، والرؤيا وسيلة للوصول إلى رضا الإله" (ص. 70)

يربط هذا الوعي الروحي بين الخطيئة والبلاء، وبين التوبة والشفاعة. فالمتديّن السومري لا يعبد خوفًا من العقاب فحسب، بل شكرًا على النعمة وتوقًا إلى الرضا الإلهي، الذي يمثّل غاية الوجود الأخلاقية. ومن هنا يُصبح الدين السومري مدرسةً في تهذيب الضمير، تردّ الفعل الطقسي إلى أصله المعنوي، وتستبدل فكرة الجزاء المادي بفكرة التطهير الروحي.

ـ 3 ـ

ضمن هذا الأفق آمن السومريون بأنّ الكشف الروحي (التوسّم) يُمكّن الإنسان من إدراك الغيب. وقدّروا أنّ الموت ليس فناءً وأنه انتقالٌ نحو العالم الأسفل، حيث الحساب والجزاء. وتمثلوا العالم الآخر لا باعتباره زوالا وعدما، بل امتحانا. فلاحت عندهم البذرة الأولى لفكرتي الجنة والنار قبل تبلورهما في الديانات الإبراهيمية.

ولأنهم ربطوا المصير بالعدل، جعلوا من القانون تعبيرًا عن الإرادة الإلهية. ووجدوا في الحاكم ظلًّا لله وليس سيدًا مطلقًا. فالقوانين السومرية امتدادٌ للوحي الأول. لذلك فهي تعاقب الظلم وتكرّم العدل، وتربط الخلاص بالكمال الأخلاقي. فمنح هذا الربط بين الأخلاق والمصير التجربة السومرية بُعدًا وجوديًا عميقًا. من مظاهرها أنّ الحاكم مسؤول أمام الإله لا أمام الشعب وحده، وأنّ العدالة الطريق الأوحد إلى محبة السماء. وبذلك يصبح التشريع تجلّيًا أخلاقيًا للوحي، لا مجرّد أداةٍ للضبط الاجتماعي.

ويتكثّف في التجربة الدينية السومرية مبدأ نادر في الحضارات القديمة: هو الجمع بين الروح والعقل والعمران. فقد أفضى إيمانهم بالحياة بعد الموت إلى تشكيل وعيٍ أخلاقيٍّ يحرس النظام الاجتماعي من الداخل. وأدركوا أنّ الخلود لا يتحقّق في الجسد وإنما في الفعل الخيّر. وبذلك ارتقى فكرهم الديني من الميتافيزيقا إلى الفلسفة، ومن الرمز إلى المعنى. فكان الدين عندهم بناءً أخلاقيًا وجماليًا في آن، تتوحّد فيه معرفة الوجود بمعرفة الخير.

ـ 4 ـ

لم تكن الأسطورة في سومر مجرّد خرافةٍ لتبرير الطبيعة أو حكاية عن آلهةٍ متنازعة. إنها سجلّ روحي يؤرّخ لرحلة الوعي الإنساني في بحثه عن المعنى وتأويلٌ رمزيّ لدورة الحياة والموت والخصب، يعبّر عن وحدة الوجود في أبعاده الكونية والإنسانية معًا. وفي هذا السياق تبرز أسطورة دموزي تموز، الإله الراعي والمخلّص الأرض) وأنانا (عشتار لاحقًا، أنثى الخصب والسماء)، اللذين يُجسّدان أعمق رموز التجدد والموت والخصب في الفكر السومري. فـ"ـاتحادا في الزواج المقدّس، رمزًا لوحدة السماء والأرض" (ص. 88) و"موت دموزي ليس فناءً بل تجدد، كما يموت الزرع ليحيا المطر من بعده." (ص. 90).

حين فُكّت رموز الخط المسماري انبعث من الطين صوتٌ لغويّ لا يشبه أيّ لغةٍ معروفة. فأعلن ميلاد الوعي بالزمن وبالذات معًا. ومن رحم هذا الاكتشاف تجلّت عبقرية السومريين الحضارية. فقد بنوا الزقّورات، وأسسوا نظم الريّ والعدالة، ودوّنوا القوانين، وأنشؤوا المدارس، ومارسوا القضاء.
فتتجلّى في هذا الطقس رؤية سومرية فريدة للوجود، مدارها على أنّ الموت ضرورةٌ كونية لاستمرار الحياة. ويفهم الباحث دموزي بوصفه رمزًا لوليٍّ مخلَّصٍ إلهيٍّ تنعكس عليه فكرة التضحية في سبيل تجدد العالم. أمّا أنانا فهي الروح التي تهبط إلى العالم الأسفل بحثًا عن النور. فتصبح رحلتها نزولًا معرفيًا قبل أن تكون سقوطًا ميتافيزيقيًا. ذلك أنّ العالم الأسفل في الوعي السومري ليس جحيمًا للعقاب بل تجربة تطهيرٍ روحيّ. ومن خلال هذا المعنى تتحوّل الأسطورة إلى نصٍّ عن تطهير النفس وعبور الروح نحو النور بعد اختبار الألم. وفي النصوص المتأخرة يتحوّل دموزي إلى إنسانٍ قدّيس، ويغدو رمزًا للمنقذ المنتظر. فتمتزج رمزية الخصب بفكرة الفداء. وهكذا تمهّد أسطورة دموزي لأنماطٍ لاحقة من الفكر الديني عن الخلاص، قبل أن تنتقل روحها الرمزية إلى ملحمة جلجامش.

ـ 5 ـ

في ملحمة جلجامش تتكثّف التجربة السومرية في أصفى صورها الفلسفية. وجلجامش، ملك أورك، نصفه بشرٌ ونصفه الآخر إله. إنه الكائن الممزّق بين الأرض والسماء، وبين الرغبة في الخلود والوعي بالموت. وإلى جانبه يقف أنكيدو، الذي يمثّل الجانب الطبيعي الخام في الإنسان، فتغدو صداقتهما صراعًا داخليًا بين الجسد والروح. وحين يموت أنكيدو، يستيقظ في جلجامش رعب الفناء. زمن هنا تبدأ رحلته الكبرى في طلب الخلود. فيجوب البحار والبراري حتى يلتقي بـزيوسودرا (نوح السومري)، الناجي من الطوفان، ويسمع منه سرّ الحياة الأبدية. لكن الخلود يُسلب منه في لحظة غفلة، كأنّ القدر يردّه إلى إنسانيته ليكتشف "في النهاية أن الخلود لا يُمنح للجسد، بل يُكتب بالكلمة والعمل." (ص. 137)

بهذا المعنى، تصبح رحلة جلجامش بحثًا عن معنى الوجود لا عن الحياة الأبدية. فهو في تقديره، نبيٌّ ضلّ طريق النبوّة حين طلب الخلود المادي. ثم عاد إليها حين أدرك أن الخلاص في الفعل والمعرفة. والمعرفة في تأويله، ليست امتلاكًا للسرّ. إنها وعي بالحدود، ولذلك تغدو الملحمة درسًا فلسفيًا في أن الإنسان خالدٌ بقدر ما يبدع ويُحسن ويُعمّر.

هكذا تكشف المقارنة بين دموزي وجلجامش عن تدرّج الوعي الإنساني من الرمز الطقسي إلى التجربة الوجودية. فدموزي هو الإنسان العاشق الذي يهب نفسه للعالم ويموت ليعيد دورة الخصب. أما جلجامش فهو الإنسان العارف الذي يواجه حقيقته وحدوده ليبلغ النضج الروحي. وكأنّ السومريين عبّروا من خلالهما عن وجهي الإنسان الواحد: العاشق الذي يُفنى في الحبّ، والعارف الذي يُفنى في المعرفة. وبهذا التداخل بين الأسطورة والملحمة، تُصبح التجربة السومرية من وجهة نظر الباحث، أول تأمّلٍ فلسفيٍّ في معنى الفقد والخلاص، وأول وعيٍ بأنّ الخلود لا يُستمدّ من السماء وحدها، بل من فعل الإنسان في الأرض.

ـ 6 ـ

يتميّز الكتاب بجرأته في إعادة تأويل البدايات الحضارية من منظورٍ توحيديٍّ. فلا يتعامل مع سومر باعتبارها مرحلة أثرية فحسب. إنها مرجع روحيّ لتاريخ الوعي الإنسان. فيقدّم المؤلف طرحًا فلسفيًا يجعل الدين نواةَ الحضارة لا نقيضها. ويربط نشأة النظام والقانون والمعرفة بالوحي الإلهي، ويفكّك أوهام القراءة التطورية التي تختزل الإنسان في بيولوجيته، ليؤكّد أنّ القفزة السومرية كانت فعل وعيٍ لا فعل صدفة.

ومع ذلك، ورغم هذه الجرأة، لم تخل قراءته من تعسف ظاهر أحيانا. فمن ضمنيات هذا التأويل، عدم انقطاع الوحي وتواصله في شخص الحاكم أو العارف واعتبار الوعي الديني حرسا للنظام الاجتماعي من الداخل وأن خلود الصالحين، أنصاف الآلهة لا يتمثل في بقاء الجسد سليما وإنما في ما تخلّفه من الكلمة والعمل. وكما مثلت سومر تجلّيًا للوحي الأول الذي مهّد لولادة الإنسان العاقل باعتباره كائنًا أخلاقيًا وروحيًا فإنّ النجف الأشرف الراعي لنشر هذا الكتاب، بمقولاته حول استمرار الوحي وحول تجسد النبوة في الهداية والعصمة